وقفات تأمل مع ألفاظ الذكر الحكيم – «مِنْسَأَة»

الوقفة السابعة مع ”مِنْسَأَة “.

مِنْسَأَة بكسر الميم فـ نون ساكنة ثم سين مفتوحة، على وزن مِفْعَلَة من الفعل نَسَأَ، اسم أداة كمِطرقة ومِلعقة ومِكنسة.

ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم مرة واحدة فقط في قوله تعالى من سورة سبأ {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴿14﴾}.

والمِنٔسَأَةُ عصاة غليظة تستعمل كأداة لتأخير الإبل المصابة بالجرب عن الإبل السليمة خشية العدوى، من الفعل نسأ أي أبعد السقيم من الإبل عن السليم لكي لا تنتشر الإصابة في القطيع كله. ثم اتسع استعمالها لكل تأخير بداعي جلب المنفعة أو دفع المضرة، سواءً كان مكانيًا أو زمانيًا.

ومن التأخير المكاني ما قاله الشاعر:
إذا دببت على المنساة من كبر … فقد تباعد عنك اللهو والغزل

ومن التأخير الزماني ما جاء في الحديث: من أحب أن يبسط له في رزقه ويُنْسَأُ في أجله فليصل رحمه.

وما جاء في قوله تعالى في سورة براءة {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(37)}، والنسيء في هذه الآية إشارة إلى ممارسة عند العرب في الجاهلية إذ كانوا يرون في تتابع ثلاثة أشهر حرم مدة طويلة جدًا تتسبب لهم في الفقر حيث لا غزو فيها. فعمدوا إلى التحايل على حرمة شهر محرم بأن يحللونه عامًا ويؤخرون (ينسئون) التحريم إلى صفر عامًا بعد عام، عام يحلونه والعام الذي يليه يبقونه حرامًا.

علاقة العصا بالإنسان
ترجع علاقة الإنسان بالعصا إلى زمان موغل في القدم. فعلى الأرجح يعود ظهور العصا في حياة الإنسان إلى بدايات ممارسة الإنسان لنشاط الرعي. فالراعي كان بحاجة ماسة إلى العصا كوسيلة دفاع عن نفسه وعن قطيعه من الحيوانات المفترسة وبالأخص الذئاب ثم استعان بالكلب لهذه المهمة. وكذلك استعملها لضبط حركة القطيع وتوجيهه. ومع مرور الزمن ظهرت لها استعمالات أخرى منها أداة حمل وأداة للمساعدة في المشي خاصة في حال العجز أو الكبر. وقد ذكر نبي الله موسى عليه السلام ثلاث غايات لها قال تعالى في سورة طه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18)}.

السياق
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} الحديث عن موت الملك العظيم وصاحب الملك الفريد من نوعه، نبي الله سليمان عليه السلام الذي لم يكن كسائر الملوك. فمملكته واسعة وتضم بين جوانبها أقوامًا مختلفة كما أن نفوذه لا يقتصر على الإنسان فحسب بل معظم الكائنات الحية خاضعة له بالإضافة إلى عناصر الطبيعة كالرياح والسحب وغيرها. موت شخصية كهذه بهذا الوزن وهذا السلطان لا بد أنه حدث تأريخي كبير له ما بعده.

الآية الكريمة تبيّن فيما تبيّن:
• أهمية فرض هيبة النظام على الجميع. فمن خلال إشعار الجميع أنهم تحت المراقبة وأن عقوبات قاسية ستحل بالمخالفين استمرت الأمور تسير بانتظام لمدة لا تقل عن سنة و الملك ميت. حتى أولئك الذين يقضون عقوبات بالأعمال الشاقة استمروا في تنفيذ العقوبات المفروضة عليهم “تبيّنت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا وفي العذاب المهين”.

• المحافظة على الخصوصية
ضرورة أن يحافظ المسؤول في أي مستوى كان على خصوصيته من الاختراق لكي لا يتم إستغلال ظروفه الخاصة من قبل الغير.

• الانضباط الإداري
ضرورة أن تكون الإدارة منضبطة وأن تمارس مهامها الوظيفية بشكل مباشر ولا تسلم شيئًا منها للحاشية من الأهل والأصدقاء.

• عدم الغفلة عن لقاء الله
النهاية واحدة للجميع. فالملوك والطبقة المترفة وذوو الشأن كلهم يموتون كما يموت الفقراء والبؤساء. فلا ينبغي للإنسان العاقل أن يلهيه إقبال الدنيا عليه عن لقاء ربه.



error: المحتوي محمي