للأمكنة طعم ورائحة ونكهة لا تقاوم، تتغلل في الحواس من غير استئذان، الطلع والريحان وتفتق الزهر فيض حسن لمزارع الشمال، شذى يفوح من بساتين فريق الأطرش عطرًا ونشوة، تتلاقى الأرواح لحكايات عشق مسافرة، هائمة في ليله الهادئ كما النفوس المطمئنة، أنين ونغمة رنين سلبت الحواس، بين الخدر والنعاس براءة تاهت في بحور وجدان ليلى.
موعد اللقاء يجمعنا مع حلول الظلام، نتساعد في إشعال اللمبات ونوزّعها على امتداد أرضية بيت أمي العودة، و”اللمبة” عبارة عن قارورة زجاجية مليئة بالگاز وبداخلها فتيلة تبرز للأعلى قليلًا مثبتة عند الفوهة بالتمر تتشبع بالگاز طوال الاشتعال وتضاء من مغيب الشمس إلى الربع الأول من الليل.
هي اللمبة ضوءها المنعكس على وجوهنا أثناء تحلقنا حول أمي العودة، لتطربنا بأهازيجها وحكاياتها العذبة، تداعبنا في البدء بالألغاز (الحزاوي)، “يا وليداتي عبد وزهرة وزينب، يالله تعرفوا هالحزاية: من له في العلم ساس أو باس، حدني على چفة تمشي بليا رأس؟”، نحزر ونفكر نطلق عدة أسماء ونعجز، ثم تجيبنا بأنها “الگبگبة” -سرطان البحر-، ثم تأتينيا بلغز ثان، “كل طير طار على اللامة، قتلته ما طلع دمه؟” نرمي أسماء خبط عشواء فلا نهتدي للمقصود، تجيبنا بأنه الغزال “اليعسوب”، وتأتينا بلغز آخر: “حجرة حجنجرة ما هي احجاره له، تبيض وتفقس وتمشي على أربع ما هي حمارة له”، من كثرة سماعنا لهذا اللغز أجبناها فورًا وبصوت متسارع، “الجوعنية” السلحفاة، كم نتمنى أن الوقت يكون بطيئًا كمشيتها ليطول أنسنا.
تسرح أمي قليلًا ثم تستدرك لغزًا بأخذها نفسًا طويلًا: “أولها عظام الفيل، فانيها دق المفاقيل، فالفها عقاق لخضر، رابعها مرجان لحمر، خامسها زاد لمقلين”.
طرحنا أسماء كثيرة ولم نهتد للجواب، تتبسم أمنا وتطلق ضحكات خفيفة برغم تأشيرات يديها لتقريب المعني لأذهاننا ولكن دون جدوى، ثم تجيب بشيء من التفصيل: “عظام الفيل: الجذع، دق المفاقيل: الكر، عقاق الأخضر: الخلال، مرجان لحمر: الرطب، زاد المقلين: التمر”، عرفتوها؟ وبصوت واحد “النخلة”.
نلح عليها “خلاص اماه سوي لينا خرافة”، تباشير وجهها فيض محبة، وحكاياتها مسرح خيال، نستعد ونقترب منها أكثر بانجداب دون حراك: وتلزمنا في البدء بترديد الصلوات مع مسح وجوهنا بأيدينا، “حتى اتصلوا على محمد وآل محمد: هذا واحد كله يروح إلى صاحبه، وديك الليلة مهل في عتمته، واستبطته مرته، وهو إذا جاء يحط الأكل إلى حصانه، وقالت في نفسها مدام تأخر رجلي، أقوم الحين أنفع لحصان -والحيواين قبل لايناموا لازم أنفعهم- راحت مرته وحدرت من عليه العدة وحطت الأكل من گت وحشيش وحطت الماي وهي تمسح على رقبة لحصان، بشوي إلا وبجيت رجلها، وماميش ضوه يكشف الشيء له عدل، بس شاف واحد يتحرك أمل عليه حرامي بيبوق حصانه وخاف منه وقال أكيد عنده اسلاح يمكن يقتلني بعد، إنچان يرفع تفگه ويفور فيه، -طاخ- صرخة -احطم- وعلى الأرض، ما جاء إلا هي مرته تتعفر بدمانها تحت رجول حصانه، أ أ هدي مرتي يا ربي، واويلاه يقلبها منه ومنه ماميش، فاضت روحها، يهززها، وهو يزعق عليها “يا دويخ”، “يا دويخ” أنا ويش سويت فيش، يا الله، اويلي على حظي وزماني، الرجال ادوده، وكتل روح من لصياح والصريخ عاض أصابيع الندم، دارت به الدنيا وقعد على الأرض، مدد رجايله وحط رأس مرته على فخده وهو ينوح چنه يهودي على جاهل بأنفاس محترگة:
ضربتش بالتفق يا نجمة الفجري
ضربتش بالتفق والناس ما تدري
على دويخ العزيزه لجدب الونة.
ضربتش بالتفق يا نجمة الغباش
ضربتش بالتفق لا بأس عليش لا بأس،
على دويخ العزيزة لجدب الونة
ضربتش بالتفق ليت التفق جاني
حسبته حرامي بايق حصاني
على دويخ العزيزة لجدب الونة
قام يقصد عليها، ويصيح، فاتت بعد ويه، ويش يسوي الحين، وطول الليل يون عليها، أصبح الله الصباح استخبروا أهله وعرفوا جيرانه بقصته، وقدموا له العزاء، شالوها وشيعوها وغسلوها وكفنوها ودوها على شارف القبر، قال إلى بحاف القبر استنى: يا بحاف القبر سوي للقبر بابًا وسوي رويزنه إلى يم الأحباب، يا بحاف القبر سوي للقبر تابوتًا، رمامينه ذهب وفصوصه الياقوت! إيه، يقصد ويجيب وينوح، قالوا له بعد الحين ويش بيدك تسوي، إن قال ليها راحت، هديكيه عندها خت اتزوجها، مضت الأيام فالأيام، وعرسوه على ختها لكن ما لاقت له أبدًا، قام يقصد عليها:
جتنا أم القمل تسحب حضاياها
حسبته طرب بانام وياها
على دويخ العزيزة لجدب الونة
جتنا أم القمل تسحب نخيلتها
حسبته طرب بانام ليلتها
على دويخ العزيزة لجدب الونة
جته صحنه، استجن على مرته الأولية، كلشي مو جايز له في الدنيا، خيرته راح البحر، قعد على السيف، وقال: ياخور الغبر چفخ وأنا باغني، ياخور الغبر ويش أبعدك عني، رمى روحه في البحر
حتى فطس ومات!
بريق دمع على الخدود والليل يداري انفعالتنا، غمرتنا الوحشة رعشة حزن، وكأن الحكاية حقيقة، ستختلف مشاعرنا لو كان السرد نهارًا، من أدخلنا في قلب المشاهد باقتدار، هو دراماتيكية الحدث، وجرة صوت جدتي ليلى وتنغيمها بالآهات، مع التنهيدات المطولة، جعلتنا في عمق القصة حتى ظنناها ليست بخرافة، أمي مريم قالت لي لاحقًا باحتمالية واقعية القصة حسب السنة بعض الرواة، بالفعل تهنا وشعرنا بالأسى وكأننا نشاهد فيلما سينمائيًا حيًا تقع تفاصيله أمامنا للتو واللحظة.
أحاسيس دافقة، ومشاعر مسافرة نحو السماء، هدوء الليل ومصابيح الكون زينة وتفكر، ولغز محير، تشير جدتي إلى النجوم “شوفوا يا أولادي هذه الفلاف نجمات اللي صايرين في سطر واحد يسمونهم الميزان”. وتحيلنا إلى النجوم بأنها تحارب الشياطين، وعلامات لقوافل المسافرين الذين يدركهم الليل. نتوه في كنه أشكال الشياطين هل هم يتواجدون في العالم اللامرئي، يروننا ولا نراهم، أم في العالم السفلي وكيف يعيشون ويخرجون لنا ويختفون، وأوضحت لنا أمي انقسامهم إلى نوعين شياطين الإنس والجن يوحى إلى بعضهم البعض، وأوصتنا في كل خطواتنا أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، واستحضرت إلينا منظر رجم الحجاج بالعبقات الثلاث الذي تخفّى وراءهم الشيطان معترضًا طريق النبي إبراهيم الخليل عليه السلام ليرميها بالحصيات إلى أن اختفى الشيطان.
تساؤل طرحناه في الليل البهيم، لماذا هذه المخلوقات المضلة وجدت لغواية الإنسان؟، وتهنا لشرح أمي بين الذي يتكاسل عن الصلاة بأن الشيطان يوسوس له في قلبه، لم نستوعب كلامها عن دلالته الحسية والمعنوية، وارتعبنا من تصويرها للجن بأنهم خلقوا من مارج من نار وإبليس أبو الجان!
براءة حايرة في طلاسم الوجود وأسرار الكون الخفية وألغاز الحياة المبهمة. صوت جندب مستمر وخوار بقر متقطع، ونباح كلب يشتد وينخفض، أنفاس أمي مع الگدو دخان يتطاير في الفضاء.
طالبناها بسرد حكاية ثانية، استجابت لنا بترحاب: “هذي واحدة ذات جمال، چنها نجمة صبح، استخطفها عفريت وأخذها وخلاها تخدم عنده، جت ديك اليوم، بعدما أخذ عليها القهر وزاد عليها الضيق، جت عند جاري ماء وقعدت تتأمل، شافت ديك الدودة تسبح وقالت: يادودة الماء سلميلي على أمي وأبي، وسلميلي على خالتي مرة أبي، وسلميلي على أحمد كبير أخوتي، وسلميلي على العبده خيزران، وقولي ليها تخدم رأس المال، شبيدي على أهلي والدهر وياهم مال، أمسيت وياهم هلي، واصبحت عنهم راحلون، ابچي على اجوارهم هلي خليل”.
كل واحد منا حبس بكاءه في صدره، لكن الدمع غالبنا تحت عرايش الگيض، أطفائنا اللمبات ونحن في حالة تيه، تلحفنا بالخيال ورؤوسنا توسدت الأحلام.
المدهش عند أمي العودة ليس بإدخالنا عوالم الفنتازيا المستوحاة من التراث المحلي فحسب إنما قدرتها على التحدث وفي نفس الوقت يدها مشغولة بالخيط والإبرة تشكل بهما زخارف شعبية على الأقمشة من سراويل وبخانگ وغيرها، أناملها موغلة بفن ولسانها يوصف مع تغير طبقات صوتها حسب مقتضيات القصة (الخرافة) أو الأهزوجة؛ الأمر الذي يجعلنا نعيش أجواء السرد بكل تفاصيل الحدث، وبجانب تسليتنا كعادة العديدة من جدات زمان أول فهي تقدم لنا معلومات ومعارف من حيث لا ندري.
لا تكل أمي وفي كل الظروف عن التحدث عن حياة الأولين، والمشي سنين للوراء لأناس عاشوا على هذه الأرض في الأزمنة الغابرة، مشاهد وقصصًا وسوالف وحكايات نقلتها أمي العودة لبناتها والأحفاد.
أمي مريم وجدتي ليلى شكلتا مخيلتي، وسافرتا برؤيتي بعيدًا نحو عوالم الفن والخيال. أي سحر أطربني صغيرًا والبراءة شغف لا حدود له، سرت مبهورًا نحو مواطن الماورائيات.
بين الخوص والخيوط تجلت أمي العودة فنًا وانجازًا .