أتيت لأكمل لك حديثي عن حرفين لا نحسن استخدامهما خاصة في وجودنا وسط ضيافة قداستك.
بالأمس قلت لك بأن هناك من يسهب في استخدام الـ”لا” للنهي ورفض كل أفق حتى لو كان من المسموحات فقط لأنه لا يعرف عنه شيئًا والخوف من نتائجه.
أما اليوم فسأخبرك عن من لا يستطيع استخدام حرفين الـ”لا” لرفض أمر قد يعرض وقته فيك للسرقة وقد تكون السرقة من الخارج من قبل الناس وربما تحصل حتى من الداخل وتكون من نفس الشخص هو من يعرّض وقته للسرقة وأمام عينه!.
ربما يستصعب البعض قول لا لرفض مهمة إضافية لا يتسع الوقت لتنفيذها وتكون على حساب وقته فيك الذي بالكاد يكفي لأداء الواجبات والقليل من المستحبات، فالزيارات والمحادثات والمكالمات الطويلة التي تمتلئ بالغث والسمين دون أن تكون ذات هدف القربى ولا تتعرض لشيء من بركاتك هي تسرق منا كنزًا ثمينًا من الوقت سنبكي لاحقًا لجعله يضيع دون أن نقول “لا”.
ربما يخجل البعض من قولها خاصة إذا كانت طارئة ودون موعد مخطط له كبعض الزيارات المفآجئة التي تكون كفة ميزان الأدب راجحة عليها، لكن الأدهى إذا لم نستطع أن نقول لنفسنا وهي تسرق من ذاتها “لا”، ويمتد الأمر بالطبع عن أمر الوقت لأنه بالإضافة إلى أننا لا نقول “لا” للنوم الزائد أو اللعب الذي يجر للإدمان دون توقف، أو الاستمرار والتنقل بمشاهدة مسلسل وراء مسلسل طوال اليوم، وكلها بالطبع مضيّعات للوقت إلا أننا قد نغفل عن قول “لا” للاستسلام لهوى النفس والإضرار بها كتناول بعض الأكلات التي نعلم ضررها ومع هذا نحشي أمعاءنا بها، ونستسلم لأي كلمة محبطة تدعونا للاستسلام والتمتع بما لذ وطاب بشكل ينم عن أنانية وتعريض الجسد المسكين لويلات الإسراف بالمأكل التي بالتأكيد تعود آثارها على الروح التي ستخمل عن أداء ركعتين مستحبة أو قراءة جزء قرآن.
نحن نقول “لا” كبيرة في سبيل مخالفة فعل أمور مندوبة بأيامك، ولكن لا نقوى على قول “لا” شُجاعة تعترض على ما يُنتهك فيك أو حتى صنع موقف يوحي بتجسيد الـ”لا” المطلوبة.
وحين أقول “لا” شُجاعة فإني أقصدها تمامًا لأن زماننا بات يحتاج لشجاعة لوقف بعض الأمور، مثل إيقاف غلاء بعض السلع المبالغ بسعرها فهو يحتاج لا لشرائها ليعود سعرها متناولًا.
لا أعلم لماذا لا تكون لدينا هذه الثقافة وهي الامتناع عن كل شيء مبالغ بسعره لأنه بات يتزايد يومًا بعد يوم دون توقف لأن الناس لا تتوقف عن شرائه وهناك من يضع شعار نعم لكل سعر مهما كان يشعر بغلائه ومبالغته.
أيضًا الـ”لا” نحتاجها حين نكون على مائدة لكن هذه المائدة ليست لوليمة من لحم البهائم ولكنها وليمة من لحم البشر، من ذا الشجاع الذي يقول “لا” لا أريد المشاركة بالأكل أو يغادر حتى لا يشارك بالسماع إذا لم تُوقف لاؤه مواصلتهم للأكل؟!
اللاء نحتاجها لمنع بعض الظواهر التي أصبحت عادة وعرفًا لا أحد يتصدى لأجل إيقافه وعدم دعمه، فمثلًا وضع الموسيقى بالنوادي الرياضية التي تصل لمستوى الصاخبة دون احترام لقداسة أيامك ولياليك.
وهنا سأعطيك مقارنة مؤلمة حصلت لي، اخترت بمرة من المرات الاشتراك بناد رياضي ولم تكن به إلا فترة واحدة دون موسيقى فاخترت وقتها بالخصوص هذه الميزة، لكن للأسف من كانوا معي يميل البعض منهم لوضع الموسيقى رغم أن النادي يملك فترات كثيرة غير هذه الفترة وتكون بموسيقى، كانوا يحترمون وجود إحدى النساء التي كانت كبيرة لأنها لا ترضى بوضع الموسيقى، وفي أحد الأيام غابت هذه المرأة فاستغلو غيابها ووضعوا الموسيقى ولم يعلموا أني أرفض ذلك أيضًا فرفضت ذلك ولم يتكلم أحد غيري رغم أني أعرف أن هناك من لا يريد لكن لاءه لم تكن شجاعة للإفصاح، وكانت المدربة من دول شرق آسيا وليست مسلمة بالبداية كانت تقنعني أنها ستضعها قليلًا فقط وأنا اعترضت لأني قد اخترت هذه الفترة لانها دون موسيقى وكانت تلك الفترة أتوقع فترة شهر محرم أتوقع فلما يتم وضعي بموقف محرج، الخلاصة أنه بالنهاية تم وضعها وأنا أنسحبت ولكن المدربة لم ترض حين رأتني منسحبة فأوقفت صوت الموسيقى وجاءت تحاول إرجاعي لأنضم إليهم، وهنا ربما شعرت بانتصار لائي رغم علمي أن هناك من لا يستلطفها.
الشيء المؤلم ليس هنا ولكن حين ذهبت لناد آخر مالكته وموظفوه كلهم مسلمون ومن المنطقة ولكن كان يزعجني صوت الموسيقى رغم أنه ليس بنظام الكلاسات فكانت الموسيقى والأغاني طوال الوقت المشكلة أني استعجلت بالتسجيل وحين أردت الانسحاب بأول يوم لم يقبلوا ذلك والمصيبة أني لم أسجل لشهر واحد بل لستة أشهر، أتذكر كان العام الفائت بمثل أيامك هذه، شعرت أن أذني ستتضرر من كثرة ما أستخدمه فيها كي لا أسمع ما يضعونه فقلت لموظفة الاستقبال لماذا يتم وضعها ونحن بشهر رمضان فقالت إنه لن يكون جميلًا إذا كان دون موسيقى!، من بعدها هجرته بشهر رمضان كله وربما لم أذهب من اشتراك الستة أشهر سوى أقل من نصف المدة.
ما أرمي له من ذكر هذا الموقف أن المسيحي أو غير المسلم قد يحترم الشعائر والأيام المقدسة احترامًا لزبائنهم، لكن من هم محسوبون على الولاية والإسلام فلا لاء توقفهم عن انتهاك قداسة أيام مقدسة ومرتبطة بشعائر الدين.
نعم قد نكون أشخاصًا مكروهين لدى البعض إذا كنا نملك هذه اللاء التي ترفض الانجرار لفتن الزمان، ويبتعد بعض الناس عنا ولكن لا يهم، وقدوتنا بذلك شبيه جده المصطفى (ص) خلقًا وخُلقًا ومنطقًا والذي قال لوالده الحسين -حين استرجع لمرئى المنايا تسير مع قومه نتيجة رفضه لأهل الباطل والظلم-: «ألَسنا على الحق»؟ فقال: «بلى، والذي إليه مَرجِع العباد».
فقال علي الأكبر: «إذاً لا نبالي أوقعنا على الموت أو وقع الموتُ علينا».
اللاء قد نجدها حرفين فقط لكن أثرها كبير حتى لو لم يتحد الكثير لقولها لكن بالتأكيد من يقولها هناك مدد خاص من الله يُعينه لرفض أي جديد يقوم بتهكير حساب ديننا والتزامنا.
بزماننا قول نعم بات أسهل بكثير من قول لا، لأن هناك من يمشي كما يمشي من الناس دون أن يكون له رأي يعتقد برجاحته بعيدًا عن معنى حشر مع الناس عيد.
لكن بالمقابل هناك نعم تكون مؤلمة ومشجية للقلب خاصة إذا كانت في سبيل القربى من الله والتضحية لأجله ولأجل استمرار دينه ولا نعلم بأفجع منها “نعم” مثل التي قالها الحسين وناب دعاؤه على القوم لتكون بمقامها، حين أتى الأكبر التي تتجسد فيه صور وصفات أصحاب الكساء من أهله ليستأذن للبراز فلم يقو على قول نعم ليرى صورة تكرار شهادتهم بشهادة فلذة كبده، فنظر له نظر آيس منه وأرخى عينيه التي غرقت بالدمع والبكاء لأول قربان من الأولاد ليرفع شيبته نحو السماء لتقدم الشكوى للباري بقوله: اللهم اشهد على هولاء القوم! فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خَلقًا وخُلقًا ومنطقًا برسولك محمد (صلى الله عليه وآله)، كنا إذا اشتقنا إلى وجه رسولك نظرنا إلى وجهه، اللهم فامنعهم بركات الأرض، وإن منعتهم ففرقهم تفريقًا، ومزقهم تمزيقًا، واجعلهم طرائق قددًا، ولا ترض الولاة عنهم أبدًا، فإنهم دعونا لينصرونا، ثم عدوا علينا يقاتلونا ويقتلونا.
علي الأكبر حين سمع استنصار والده الحسين (ع) كانت نعم التلبية حاضرة بروحه وجسده لتكون نعمه موجعة بالوصف والتخيل فكيف بالواقع وهي التي أودت بروحه ومزقت جسده إربًا إربًا بصورة تُمزق المُهج والحشى لنا فكيف بمهجة وحشى والده وأمه؟
بيومك التاسع جمال علي الأكبر (ع) كان حاضرًا ليهديني تمرة إفطاري فيك، وليعلمني كيف نبذل الجميل لله مثل جمال رسول الله فيه حتى لو وصل لمرحلة التمزيق.