بعد انقضاء أسبوع كامل منك ومروره علينا بسرعة كعادة أيامك لفتني في خطبة الرسول الأعظم (ص) في استقبالك أنه استخدم صلوات الله عليه صيغة الأمر الحنون التي لم يرافقها لفظ النهي “لا”، فكان يقول تصدقوا على فقرائكم، وقّروا كباركم، ارحمو صغاركم، وصِلوا أرحامكم، وغيرها، لكنه لم يأت بصيغة النهي مثل لا تبخلوا على فقرائكم، أو لا تقطعوا أرحامكم، أو لا تقسوا على أيتام الناس، لأنه وجد أن العقل البشري لا يستطيع فهم السلبيات التي يسبقها لفظ “لا”.
فمثلًا لو قلت لأحدهم لا تفكر بالشخص الذي وراءك فستراه تلقائيًا يلتفت لورائه أو أن عقله سينشغل لا إراديًا بالذي وراءه، أو إذا قلت لأحدهم لا تنظر للثريا فهنا نظره سيكون معلقًا عليها وكأن أحدهم قال له انظر لها، حتى الطيارين حين تقول لهم لا تصطدم بالعائق فهو سيصطدم به، فأي أمر يسبقه “لا” توقع تحقيقه من قبل من توجه النهي له.
لهذا نجد رسول الله(ص) اختار الطريق السليم لخطاب العقول، فبعضهم لا يستوعب معنى لا تذهب للنار لأنه سيحمل نفسه لها، فكان الأفضل أن يقال له أذهب للجنة لأن المباحات أكثر من المحظورات.
لكن للأسف نحن لا نتعلم هذه الثقافة وتوظيفها جيدًا فتجد البعض يعكس صورة “لا” كبيرة بقاموس عباراته خاصة في مجال التربية وتنشئة جيل لا يستلطف هذه الكلمة ذات الحرفين من كثرة استخدامها.
بالطبع هناك “لا” تكون ألطف من “لا” أخرى حسب السياق التي وضعت فيه، فهناك لاءات تزرع اليأس وربما ترفع منسوب الحماس لكسرها، مثلًا “لا تفكر أنك ستصل لهدفك أو لأي أمر كان”، بعض الناس تحبطهم هذه الجملة، وبعضهم بالعكس تكون لهم حافزًا لإثبات أن العقل لا يرى الـ”لا” قبل الجملة ويكسر مفعولها.
هنا سأحكي لك عن فئة عمرية تمقت أن يقال لها “لا” وهي فئة المراهقة لأنها تفهم “لا” بكفة عدم الحب خاصة إذا كانت هناك نماذج من أقران البيئة المحيطة قد قيل لهم “نعم”.
الخطأ أن نقول “لا” دون أن نذكر لهم ما هو الـ”نعم”، لأن عقلهم لن يفهم “لا” كما أسلفت ولأن قطعًا قائمة الـ”نعم” ستكون أكثر من الـ”لا” بالظروف الطبيعية للناس السوية، ولكن إذا لم تكن هناك صورة واضحة لتلك القائمة فستكون لا حاضرة بكل شيء حتى لو كان أمرًا مسموحًا به عُرفًا.
لكن إذا قيلت الـ”لا” فبدلًا من أن نقول “لا” للخروج من المنزل مع الأصدقاء والأقارب والتأخر أو “لا” للعب أو “لا” لتجربة شيء معين، فيلزم أن نقول لماذا هذه الـ”لا” وما هو بديلها.
مشكلة أن نقول لأحد لا تلعب لعبة البلاي ستيشن مثلًا دون أن نعطيه بديلًا يلبي احتياجه من المتعة التي يريد والفائدة التي نريده أن يحصل عليها.
ما حال ذاك المراهق الذي لا يلقى من يتحدث له ويوليه اهتمامه ويعطيه احتياجه من الحب والوقت لتعليمه الأساس السليم بعد أن كان بالطفولة فقط يتلقنها وحان الوقت لفهم ما تم تلقينه لتكون المسائل لديه يعملها عن اعتقاد لا تلقين وتلقٍ فقط.
هم بهذه الفترة يحبون إبداء رأيهم ليقول أحدهم أنا موجود حتى لو كنت مراهقًا وقد ينظر البعض له وكأنه لايزال طفلًا لا يعتمد عليه ولا يعتد بكلامه فيهز من شخصيته التي للتو تُبنى فترى البعض لا يستطيع أن يقرر أو يعطي رأيًا خاصًا به ويعتمد على ما يقوله الآخرون لأنه لم يُعط هذه المساحة من حرية إبداء الرأي.
لكن حتى لو كان رأيهم خاطئًا من الخطأ قمعه بخشونة زائدة دون احتواء ليّن يتناسب مع عمرهم الغض.
من المؤسف لدينا أن الشخص الملتزم لدينا قد طُبعت له صورة ذاك المتزمت الذي يرفض كل شيء لهذا صار البعض يكره الدين لأنه يرى فيه “لا” المرتبطة به.
فلنعترف أن قول “لا” تفعل أكثر من أفعل المصحوبة بالتوضيح اللطيف الذي لا ينفر الطرف الآخر ولا يستجاب له.
حتى لو كانت هناك نفسيات لا ننكر وجودها والتي مهما جاءت باللين وبعدم قول لا وأتيت بأسلوب مغاير فهي لا تريد الاستجابة وتريد البقاء على رأيها والتي تعلم يقينًا أنه خطأ وليس حديثي عنهم.
المراهقون لديهم صفحة جميلة للتو لم يكتب بها الأخطاء التي نحن الكبار نملكها بكتب أعمارنا فجميل مساعدتهم لرسم الطريق الصحيح دون تشنجات وتعرجات فيه، وربما نحتاج لإرخاء الحبل قليلًا والمرونة بقبول بعض الأمور جزئيًا ولكن ليس إفلاتهم أحرارًا دون تأديب ومصاحبة.
رسول الله (ص) يعلمنا ذلك بقوله: “لاعب ابنك سبعًا، وأدبه سبعًا، وصاحبه سبعًا، ثم اترك الحبل على الغارب”.
إذا أدّينا واجبنا هكذا ذلك الوقت نستطيع إفلات الحبل، ولكن للأسف نجد بوقتنا إفلات الحبل من السبع سنوات الأولى طلبًا للراحة وإعلانًا عن عدم المسؤولية والتي تفشت في زماننا كثيرًا.
لهذا يؤسفني القول بأن لدينا أيتامًا كثر، لو أردنا إحصاءهم فأبصم أن الجمعيات ستعلن عجزها عن مساعدة ربعهم لأن الأيتام باتوا ليسوا فقط من فقدوا والدهم أو أمهم، لأن اليتم امتد بزمننا لمن كان والداه موجودين ولكنهما لا يعطيانه احتياجه.
فالفتاة المراهقة التي لا تُعطى الحب والاحتواء والحنان يتيمة وستبحث عن مساعدة خارجية تعطيها ما تحتاجه حتى لو كانت بعلاقة غير سوية.
والمراهق الذي لم يتعلم من والديه وخصوصًا أباه الالتزام بالدين ومسائله والمواظبة على الصلاة مثلًا فهو يتيم يحتاج يد مساعدة عاجلة لأنه لا يدرك خطورة عدم صلاته والتستر بعدم أداءها بالكذب ويستعين بأصدقائه بالألعاب الإلكترونية الذين علموه عدم أدائها أو التأخر عليها طويلًا.
قالها سابقًا أبو الأيتام أبونا علي ابن أبي طالب (ع):
ليس اليتيم الذي قد مات والده إن اليتيم يتيم العلم والأدب
أتعلم يا شهر الله على كثرة البرامج التي تحويها لياليك فإني لا أجد برامج تخص هذه الفئة المهضومة لدينا واقعًا، فقد تحدد برامج كثيرة للأطفال أو للكبار ولكن أين برامج من يكونون بينهما؟
للأسف سبب استهتار البعض من الشباب أو الشابات أتى من هذا الإهمال لمرحلة مهمة في حياتهم خلفت ما نراه الآن من تميع وانفلات وعدم قدرة على السيطرة عليهم، وبالطبع هناك قواعد شاذة فقد تكون عوائلهم ملتزمة وتحرص على التأديب والتعليم ولكن البيئة الخارجية تكون أقوى بالتأثير خاصة ونحن بزمن بات تأثير المشاهير وسلوكهم السيئ تتغذى عليه سلوكيات الصغار والمراهقين ويرونهم القدوة الذي يُرفع عنها القلم بأبجديات الخطأ.
هم يجدون الحياة بصورة وردية وبطعم العسل حال التمرد والتجرؤ على أوامر الله ويتناسون ما سيكون عليه طعم الموت إن بقوا على هذا الحال، ولكن هنا أجد القاسم ابن الحسن (ع) بعمره الفتي وبسن مراهقته المحبة للحياة وردّه المبهر لعمه الحسين حين سأله: ولدي قاسم كيف تجد طعم الموت؟ فقال: يا عماه والله الموت بين يديك عندي أحلى من العسل.
هذا الفتى رغم تيتمه بفقد أبيه الحسن المجتبى (ع) لكن لم يعد بمصاف الأيتام وهو تحت رعاية عمه الحسين (ع) لأنه أخذ منه العلم والأدب والرعاية التي يحتاجها، فلا غرابة في أن تكون الشهادة هي أعلى طموح يتم التفكير فيه عنده وستكون همه الوحيد الذي يُحزن قلبه، ليبذل مهجته لعمه فيها ويشهد العالم زفافه الباكر عليها حتى لو نُفي زفاف زواجه إلا أن زفاف الشهادة باقٍ.
هنا نسأل هل زرعنا بقلوب تلك القلوب اليافعة حب إمام زمانها الغائب لتكون الأرواح رخيصة لأجله ليكون حضن الموت أشد حنانًا من البقاء بيتم غيبته وحيرته وأكثر بهجة من مباهج زفاف الأفراح ليكون القاسم قدوتهم بذلك؟
تمرة إفطاري اليوم فيك من يد ابن الكريم سخية جدًا ولكن أشعر أن عنوانها يتطلب فتح باب آخر منه لأن حديثي لم ينقض بعد ووقتي معك يوشك أن ينقضي، فإلى الغد بإذن الله أعود إن كتب لي الله عمرًا فيك لأتم حديثي معك لكن لا تستعجل بساعاتك فعجلتك تُربكني.