رحيل الضجر

تأخرت كثيرا في كتابة نصي والسبب يعود إلى عبثية الحياة الصاخبة بهمومها وأحزانها, وقد تعتقدني متشائمة ولكني على عكس ذلك تماما, فالقلب يعيش في حزن استثنائي, سأفتح قلبي للسماء وأرفع يداي وأناجي ربي يارب أنزل لي سحابة فرح, لتختفي الأحزان وتغيب الآهات و الأنين وبضوء الإحساس الصادق تستضيء الكلمات, ثم لا شيء آخر, وسيأتي مقال آخر بلا ضجر, وتحضرني كلمة الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة: النهاية تنمو في رحم البداية.

كيف يبدأ مقالي في كل مرة!؟ كان سؤالا خارج حدود توقعاتي فوجمت صامتة بل مفزوعة إن شئتم الدقة مشاكسة حد النخاع, أيها القارئ أكتب حروفي التي ترتجف ولكن لا تتلكأ لمناعتها الأزلية, ولا أستطيع لوم الزمن, فليعذرني القارئ أن ألملم القشعريرة فأنا في فوضى ضباب وغيوم حزن, أوشك على الانقشاع وسألتحف الهدوء ليلا لأجعل قلبي يتنفسني, وهنا تتشابه بداياتي دوما ونهاياتي لأني دوما لا مساحة بين فرحي وحزني .

ذات غفوة, استبحت الفرح بقلبي رغم الحزن,إنها حلة من السكون سبغت سمائي, بقراءتك الهادئة عزيزي القارئ كهدوء ليلي بفنجان قهوتي,وإن بقيت أحزاني العتيقة كتعويذة الفجر, حيث نحتفظ بكل أوجاعنا طوعا ولا نرغب بتركها, لأنها تجلب معها بخور الذكرى وعود الحسرة, ويا رب سمواتك فرح لا ينقضي, وسأحاسب حرفي لأنه أوجعك في مقالاتي السابقة أيها القارئ الكريم, أقرضوني معذرة وفرصة لأكتب نصي هذا, وربما سيبقى مفتوحا لتساؤلات لا منتهية.

تحركت من مكاني بخطى متلهفة مرتبكة نحو مكتبتي الصغيرة, لأعانق وأحتضن أفكاري سحبت ورقة بيضاء وبحثت عن قلم تائه بين سراديب الحروف, لأستعير لونا للفجر فيبوح الصباح بالنقاء, أود أن أشير بأن كل ما أكتبه أنا البطلة فيه وفي ذات الوقت, لست مسئولة عن تأويل القارئ لنصي فكل كلمة اكتبها هي وليدة للحظة ما, وها أنا أدخل في متن النص وأطرح تساؤلات خفية ما وراء النص الذي يعلن عن تميزه, ولعل نسبة التفاؤل كبيرة في نصي هذا وفيه من البوح ما لم يترك للحديث بقية.

يسألني البعض كيف حالي ؟! وأرد مثلما تروني لا شيء قد تغير, إلا إنني أعيش وسط هواجس وأفكار متنقلة متحركة هواجس تبعث في قلبي الذكرى والحسرة, ذكريات الماضي سعيدة وحزينة مليئة بعبق الرياحين, عندما أتذكرها أركض نحو الذكرى مسرعة خالعة عن نفسي الحزن دون وعي, حيث امتهنت الحزن وعشت خيالات من ترف الوجع, فما بين لحظات الألم والذكريات كان شريط من الذكرى, فيقف على ناحية الروح ليستنطق صدق الوفاء, حيث أنام وأصحو على أمواج الفقد, وكنت أجوب سماوات فقد صديقتي باحثة في كل الوجوه عنها, لا بأس لمساحة الحزن التي ترشف كلماتي لتقفز بذاكرة مليئة بالذكرى, وتشرح صدر من رحل عنا, فالحزن هذا اللاشيء والمضاد للسعادة وكلتاهما لا يمكن أن يكونا في قبضة اليد في ذات الوقت, وهنا يأسرني قول الإنجليزي شارلي شابلن:إن اليوم الأكثر ضياعا في الحياة هو اليوم الذي لا نضحك فيه.

يقولون:في الليل المشحون بالوجع تنمو بذرة النسيان, وتصبح غابة تحجب الحزن عن الذاكرة, ولكن الذكرى تسكن داخل جفوني وحين أغمض عيني أتذكر من رحلوا ومن عجزت عن رؤيتهم لظرف ما, كلما هممت ببوح حزني أخجلني ربي العظيم بقوله: “وبشر الصابرين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إن لله وإن إليه راجعون” يا إلهي هل ستصبح صديقتي كتلك الأوراق المتساقطة!؟ لا وكلا بل أختي وصديقة عمري سلوى أم ماهر دوما متربعة في قلبي, دون أن يأتي يوما وأسقطها من ذاكرتي لن أجعلها تبعد, ستظل كما هي وإن باعد بيننا رحيلها, أتذكر أيامي معها كمن يرى الأشياء عبر نافذة قطار مسرع.

تأهب الليل, وعلى أوراق الليل تتهادى حروف سهري, ففي تلك الليلة لم يطرق النوم أجفاني الثواني فيها مستفزة والدقائق عاجزة عن الحركة, فلم تكن عقارب الساعة تتحرك بل كأنها متوقفة عن مداعبة أوجاعي, بدأت دموعي تنهار أمامي وكل دمعة تتأرجح بين آهات وصرخات, عندها أدركت ليس كل ما يتمناه المرء يدركه, فكيف لصديقة عمري أن أهدأ بملامسة تراب قبرها, وكأن الموت يختار أجمل الاوراح , لذا سيكون من المستحيل أن أرى صديقتي مرة ثانية, ففضلت دون خيار مني أن أرتمي وإياها في أحضان الصداقة بالذكرى, فمن ذا الذي سيحطم جدران القدر؟!.

ولا شيء أجمل من أن يستيقظ الأمل والفرح فينا كأن الحياة تدب بنا من جديد, ويصبح للزمن معنى, حيث أتلمس من وجع الروح فرحا وأجمع من حزن العيون ضحكة, أيا فرحا قد نثر فوق حزني في جوف الليل الأخرس, محاولة أن أسقط آخر دمعاتي, وعجبي أن أتوصل إلى هذا اليقين والسكينة والهدوء, حيث تغلبني دوما الصور الخيالية, ولا أخفيك تشعرني بالضجر أحيانا لعدم امتلاكي سماء مرصعة بنجوم الخيال, وفي ذات الوقت لا أعترف باليأس, يقال : لا تقف كالشجرة إذا كان التوقف يعني النماء والجمال والتفاؤل بل قولوا: لا تقف كالإنسان.

إنها القدرة على خلق جو من السكون العاطفي, لعله يثير في نفس القارئ الصمت والتأمل, لم ألمس هنا ضوضاء في زحمة الأوجاع بل أتت طائعة مستنيرة بقمر الإحساس الملفت للنظر, كلغة تجاوزت مخاطبة الذهن إلى مخاطبة الأرواح وهذا شيء لافت, العاطفة ومن منا ممكن أن يعيش لدقائق لو سلبوا منه العاطفة. قبل فترة حدثت حادثة في السعودية أن فقدت عائلة عربية ابنتهم الصغرى 3 سنوات في السوق, ولكن ابنتهم الكبرى 8 سنوات بدأت تصرخ بشدة وانتابها هلع وقلق شديد على أختها, حتى فقدت الوعي وفشلت كل الجهود أن لا تفقد وعيها, ولكنها بعد دقائق استفاقت ونظرت إلى أختها بعد أن وجدوها, وضمتها بلهفة من شدتها أصيبت بالسكتة القلبية وفارقت الحياة, ولعلني اشعر بألم القارئ متأثرا بهذه القصة هكذا هو الإحساس وهذه هي العواطف.

سأفتح قلبي للسماء وأرفع يداي وأناجي ربي يارب أنزل لي سحابة فرح, لتختفي الأحزان وتغيب الآهات و الأنين وبضوء الإحساس الصادق تستضيء الكلمات, ثم لا شيء آخر, وسيأتي مقال آخر بلا ضجر, سلبتني الدهشة من نفسي حينما قررت أن أبتعد عن الحزن, وشعرت إن روحي ستخرج من جسدي لتتطهر من الوجع وتعود ثانية, حيث تكدست بين حروفي الكآبة واتشحت مساحة صفحتي بالأسى دون أن أرتضي هذا الخيار,نعم نحن محاطون بالحزن والوجع شئنا أم أبينا, عذرا قد أشبعتكم ألما كما تقول الحكمة” شكوت وما الشكوى لي عادة لكن تفيض النفس عند امتلائها.

ويحق لي بعد الذي كتبته أن أستمتع بنكهة القهوة وبتذوق سكر الحروف, حيث فنجان قهوتي يكتب لي خواطر ونصوص والقطيف علمتني كيف أكتب بالحرف والكلمة, و قهوة الليل عندي مطلب استثنائي وهذا المساء بالذات قهوتي ممزوجة بالهدوء والسكون, سأنام مبكرة الليلة على أمل أن أجد وألمس ابتسامة الصباح مشرقة في ظهيرتي ليملأ نهاري فرحا, وإن سقطت إحدى دمعاتي وهذه خاصة لا تقبل الاستثناء, ما حيلتي! ربما سأحتضن دمعتي لوحدي, وسأبقى اغزل صمتي بدقائق الوقت محلقة بشواهق حزني لأخلع أكفان قهري راضية و انتظر الورد أن يختزل عمره ليمارس عطره كما يشاء.

أيها الحزن حلق بعيدا وأرحل فلم أعد أحتملك, أحاول أن لا أكتب كلماتك وما رغبتك تطول ولكني أراك أمامي ولا أعرف السر!وبالكاد أجرؤ على كتابة محاولة إخفاء فرح سكب على قسمات قلبي, ويخطر لي الكتابة بعيدة عنك يا حزن, سأعلن رحيل حزني وسأرحل عن حزن احتضني وعانقني إلى صدره وكان يلاحقني ويقتلني بمرارته,وسأرحل إلى عالم مليء بالهدوء والجمال لأبتعد عن هم الدنيا واكتب حروفي وابني جسرا نحو السماء, وأحلق مع طيور السماء وألح على الله بالدعاء, وسأضع لافتة أكتب عليها بخط عريض هنا يسكن الفرح والسكون, سأطلق الحزن ليطير بعيدا عن قلبي ولا أدري إن كانت ستجلبه لي الرياح قريبا ليقتحم عالمي ثانية, سأبتعد عن هاجس أنا لا أستطيع بل أستطيع واستطيع, بعد عن كان صوت السماء يهمس في سر حزني ينصت لوجعي.

وأخيرا لقد حط طيري على غصن الندى وطار همي وحزني لتغادرني آهاتي وأعلن سكوني وأمزق أوراق أنهكها وجعي وارفع الراية البيضاء لأمتطي صهوة قلمي وأنتهز فرصتي لأهديك أيها القارئ لحظة ورد وقطرة مطر, لا يسعني إلا أن أعتذر لقلبي لأني أجهدته وأتعبته كثيرا وجرعته وجعا في لحظة حزني, وأعتذر لقلمي لأني استهلكته وأحرقته وبدون حبر تركته وفي لحظة وجعي لجأت إليه, وحتما سأعتذر لقهوتي لأني عشقتها حد الفنون وكانت إحدى طقوسي أما حبيبتي القطيف أنحني لها احتراما وأعتذر بحياء.


error: المحتوي محمي