ينوح حمام النخيل على زرع أينع وحان قطافه، أبصرته العيون فرحة وبهجة، تشابكت الأيدي لجزه، والبيع في الأسواق، وعلى حين غرة نهبه السراق، جفاف حل، ولد انسل، جوع عم، ساد الوهم، سقط النجم انكفأ البطن، العيش ضنك، والفرار يباس، والرؤية سواد، خارت القوى.
أكف رفعت والأدعية ملء الأفئدة، تضرعات وتوسلات لدفع الضر، بعد تسع سنين انكشف السوء وانجلى البلاء، “ضحكت الدنيا بعد نور الشمس” تحايت النفوس، هبت السواعد، زرعًا وحرثًا وحراك، عناقيد تدلت من جديد، مساحات خصب تسر الأنظار، أرض خضراء باركها الرحمن جودًا وعطاء.
هائمًا بأحاديث الشجن، مسترجعًا صور نبض السنيبن.
تحكي لي والدتي بأن والدها حجي محمد حسين محمد سلمان هبوب، أراد أن يشتري منطقة “الجبال” كاملة ولكن عمل “خيرة” وأتى الجواب بالنهي!، ربح المكان رجل من دارين يدعى (لشليبي)، هو النصيب أو الحظ حين يبتسم، ويعبس لناس دون ناس.
أكبر تفاني جميع المزارعين بإحياء الأرض، وقضاء سنين عمرهم في عمارها بين حرث وزرع، وكأنهم أصحاب المكان.
ما أجمل منظر النسوة الحاملات فوق رؤوسهم صواني الغذاء إلى أزواجهن الفلاحين، يتخطفن وقت الظهيرة بين معامير فريق الأطرش ويعبرن الزروع، والظلال، يفترشن سفرة دائرية صنعت من خوص، ويضعن في وسطها “ماعون العيش ” رز موشح بالسمن البلدي، والإيدام سمك أو ربيان، وجبة يومية مشبعة، مزينة بفردات رطب وتمر، وفجل وبقل و”شربة” ماء.
أجساد قوامها مائدة بسيطة، يقتاتون ما يزرعون، وخيرات البحر ملك للجميع.
اللحوم الحمراء قليل التناول، يقبلون عليها عند ولائم الأعراس والنذور، يأكلون بما يسد الرمق قانعين هانئين، بلغوا من العمر عتيًا، وهم بصحة وعافية، مؤمنين بحي على خير العمل؛ لأن وقتهم حراك يومي في الحقل والبحر .
تقول أمي بعفويتها، ومنطقها العقلاني البسيط “ما شفت لأول أحد يمشي على عكاز أبدًا، شرعوا فوق الفمانين والتسعين وهما أقواي، ما حد جالس، الكل يشتغل إما في المعامير يزرعوا أو ايدشوا البحر أو يباروا لحضور، ما قالوا تعبنا، والنسوان مفل، من قعدتها الصبح إلى زين تنام وهي تشتغل، تعابي البيت في كل شيء، ترضع وتربي الجهال، وتنفع الحياوين، تغسل لماعين ولفياب في لعيون أو في العانات، تسبح أولادها وتجي تطبخ وتخم، ما تستريح حتى دقيقة تفتر زي الدوامة.
الحين يا دافع البلاء زادت الأمراض، وكفرت العكاكيز، من ويش من الخيابة، وكفرت الكعدة اتبهت العافية، الأول بعد أكلهم طري بس الدبس والسمن مخزن، ما عرفوا أكل القواطي ولا عفايس بطنات المطاعم ولا أكلات نصايف الليل، الأول كل وحدة تطبخ أكلها في بيتها بنظافته وسناعته، الحين الكل عاجز والكل مو قادر، آه ويلي، ركبتي، صنيفي، ظهري، وكل شي يعورهم، كبو كبو تحتي الماي ما أقدر أشربه “. كلما تحركنا اتى انفع لنا جسديا ونفسيا ومعنويا، ففي الحركة بركة.
أعيش النعيم في ربوع فريق الأطرش بين الماء، والخضرة، والوجه المبتسم، طيبة لا متناهية تشع من لدن النساء والرجال على حد سواء، هم أقاربي وأنسابي، ومعارف، وجيران أهلي، عاشوا بين زروعهم الفاتنة التي انعكست على أخلاقياتهم، هم أهل نخوة وحمية، عند الملمات صفًا واحدًا.
أركض حافيًا بين الظلال ونداوة الأرض، واتسلق النخيلات الصغيرة، أفتش بين السعفات عن أعشاش البلابيل والعصافير بغية سرقت فرخ لم يقوَ بعد على الطيران، أسطو على الصغار، ولكن يدي ترتجف آخذ واحدًا فقط وأترك الباقي فاتحين أفواههم في انتظار زاد أمهم، نيتي بأن أطعم الفرخ قطرات ماء، وفجأة يغمض عينيه نتيجة حركة أناملي العابثة، والمرتبكة يداهمني الحزن حين يفارق الحياة، أكاد أن أبكي حين توبخني أمي “مو زين عليك من الله، اترك العصافير لصغار في أعشاشهم ولا تقرب صوبهم فاني مرة”، لكن جدتي تأخذني بالأحضان وتهمس في أذني “تقبل أحد يأخذك من أمك” !
إن شاء الله يا أماه،
سمعت نصيحتها مخاتلًا؛ فالشقاوة تزين السطو على الأعشاش، دنوت مرة لأخذ فرخ وإذا الأم على السعفة بالقرب مني تراقب، أحسست بالرأفة، وتخيلت نفسي مكانها، تألمت وروح العاطفة تجلت أمامي درسًا بليغًا.
ما أقسى على الكائن أن يهجر من عشه، ويبات في العراء.
أصحيح يا أماه مر على بلدنا ناس ناموا في العراء وما توا من الجوع؟
طنت أذني من هول ما سمعت لما حل بالديار من بؤس وفقر، وأوجاع، أجساد واهنة والناس حيارى!
من يتصور كم من الويلات قاست هذه الأرض، وكم من مصائب فتكت بالعباد، مشاهد تعصر القلب،
هي “سنة المطاقة” (البطاقة) شح فيها الأكل، وقلت المواد الغذائية الأساسية، لا سكر ولا رز ولا طحين، ولا حبوب تصل للأسواق، كل السفن التجارية معطلة لا أحد يجرؤ على الإبحار، الملاحة متوقفة، لا تصدير ولا توريد بسبب أهوال الحرب العالمية الثانية.
قننت الحكومة توزيع الغذاء لما هو مخزن من طعام عبر بطاقة، بموجبها تصرف مؤونة محددة لكل أسرة بما فيها التمر، وحين طال أمد الحرب من (1939- 1945) زادت المعاناة أضعافًا مضاعفة، ست أعوام لحرب ضروس أهلكت الحرث، والنسل وقضت على 70 مليون إنسان، امتد توابعها وارتدادتها ثلاثًا بالنسبة الينا، بمجموع تسع سنين فقر، وهلع، وخوف، وسطو، الهزال نهش بالأجساد والجوع فتك بالعباد، مجاميع من الأطفال قضوا نحبهم من الأمراض والأوبئة، صدور النساء جفت، وعيونهن لا تتوقف عن النحيب، توزعت مقابر صغيرة عند المساجد، ظلت علامتها إلى عهد قريب شواهد مغروسة من كرب النخيل أمام كل محراب.
مسجد عزيز، مسجد الشيخ علاء، مسجد الشيخ علي، مسجد الشيخ محمد بسنابس، مسجد نخل الغالي، ومسجد بالقرب من سوق تاروت – أزيل بسبب مرور الشارع العام- سنين عسر، والناس في مصائب والهول عظيم، من يصدق الجحيم الذي عاشه الأجداد أثناء الحرب الثانية من شح الطعام، والمعنون بسنة “المطاقة”، هو ابتداء سنة الصرف بالبطاقة بحلول 1360الموافق 1940م إلى أن وضعت الحرب أوزارها.
وعن عذابات تلك السنين المهلكات، تفتقت قريحة الشاعر الشعبي عيسى بن ناصر فضيلة، من أرض الجبل بتاروت يصور أحوال الناس: “زالت أبراك الأرض وأذهب غناها ..وتعطلت منها المجاري والأكوان، يا جامع للمال تحظى بلظاها ..من أجل ما ترحم فقير وجوعان، والأغنيا بالمال شح عطاها ..والفلك واقف ينتظر صوب ديان، كم مرة بالدرب تمشي بعراها.. نكس سواطرها الحيا وزود ليمان، ما عندها ستر ودلي غطاها..عن عين ناظرها وضعيفين ليمان، وأطفالها من الجوع ذبلن شفاها..تريد المعيشة وطالب القوت عجزان، البحر لو يسقي ما بل فاها ..البحر لو يسقي الفضا صار دخان ، هذي ثمان سنين تطحن قصاها .. … … ….. ، والتاسع لمن بلغ منتهاها .. ضجوا بجاه الله شيوخ وشبان “.
إن كانت هذه القصيدة الشعبية تصور معاناة مجتمع الشاعر وما رآه من أهوال، هي ممتدة جغرافيًا لما هو أبعد وأبعد، والأنكى من ذلك ما بلغني على لسان والدتي بأشياء لا تصدق حيث تقول ” {أخذت الولد ورحت بالسوق بابيعه ..ضحك لي بسنه وعييت ما بيعه} مسوى الفقر بتروح تبيع ولدها حتى لا يموت، وتأخذ بقيمة بيعته ليها أكل حتى تعيش، ناس باعوا أولادهم وباعوا بيوتهم، شوف الحين قامت الناس تلعب بالنعمة – معقولة يا أماه أحد يبيع ولده – يقولوا صار في ذيك لسنين وقبل حتى المطاقة واللي باعوا بيوتهم واجد، والله ما أدري يا ولدي هذا اللي سمعته أني ما شفت بعدني ما أخلق، صدق چدب بس ناس واجد اتحچوا عن أيام الفقر، ومصايب سنة المطاقة بسبب حرب ههتر ” تقصد (هتلر) واستذكرت شعر آخر “يا هي سنة سنت علينا بجورها وجفت، وحقوقها علينا الغادرة وجفت. ” غاب عن بالها التكملة، ثم أردفت بأن نساء كثيرات ليس عندهن أي شيء تطبخه، حيث لا يوجد شيء، “باحشي شي ولا عندي شي” و”أكزر أنهاري على نهيك حماري ” تنتظر متى ينهق الحمار عل وعسى تحصل على أي شي، تطبخه.
إن كان ثمة تراث شفاهي مؤلم تناقلته الألسن يصعب تصوره، هناك مجتمعات مرت بماس ومحن، وصفحات التاريخ مليء بالفظائع، والحروب، والكوارث، وما مر بنا قبل سنة أثناء الوباء الأخير هي أحداث زلزلة الإنسانية كافة، ولهو دليل على تجدد المحن والخطوب.
لو دونت معاناة كل عائلة على حدة في الأزمنة القديمة التي عاشها الأجداد بما فيها سنين البطاقة لقرأنا العجب العجاب، وثمة أشياء من الصعب ذكرها يندى لها الجبين، يكفي بأن الأفواه أكلت الحشائش!
ما أروع فعل الخطباء حين يرفعون أكفهم أمام السامعين، ويتلون الدعاء المعتاد عند نهاية كل مجلس “اللهم أمنا في أوطاننا .. إلهي أدم علينا نعمة الأمن والأمان” وهنا
الأمن بمعناه الشامل والواسع.
ماض يفوح بحلوه ومره يتقلب بين المسرات والأوجاع، زودني به تباعًا والدتي وخالتي زليخة وخالي حسين هبوب، وباسترجاع أقوال جدتي تحت “عرايش القيظ” وهبوب نسائم الشمال.
فضاء فريق الأطرش
سلام وأمان وهواء عليل يوقظ كل الحواس.