كان يوم المنى حين استجابت والدتي لطلبي، بأن أبيت ليلة عند أمي العودة، هي مكافأة سارة بمناسبة نجاحي من الصف الثاني، لأن الأماني من وحي أناشيد كتاب المطالعة عسيرة المنال، “أبي اشترى لي ساعة فلم أنم من الفرح”، وأنشودة: “ما احسن الدراجة وقت الحاجة “، هدايا مصادرة عندي، وحدهم طلاب المدرسة من كان أبوه في شركة أرامكو أو ميسور الحال يتلقون مكافئة النجاح.
ها هو زميلنا من الدشة يتحسس الساعة الجديدة التي تحيط بمعصمه لأول مرة، ماركة و”نستن” محتارًا بتحريك عقاربها بين التوقيت الأفرنجي أو العربي؛ فاختار الأول حسب أخيه الأكبر الذي علمه التحريك ولقنه الآتي: “ساعتي مضبوطة تيمها اكرنچ، على ساعة بيكبنك” مصطلحات لا نعرف مدلولاتها، ولا حتى صاحبنا الذي يطوي كم ثوبه قليلًا لكي تراها العيون، كأنها سوار من فضة، وبين لحظة وأخرى يمعن النظر ويهف عليها من بخار فمه ليلمع زجاجتها فركًا بكمه الثاني، يعاود تنظيفها بسبب تطاير غبار لعبة “الدغشة”، ومن شدة تعلقه لا يريد أن ينزعها من معصمه، ذات مرة نساها واستحم بها في حمام تاروت؛ فتسلل الماء لداخلها، وأصبحت العقارب شبه متوقفة، والأرقام لا ترى، تعلوها مسحة من ضباب، أوصاه والده لو حصل أي خلل فيها (أخرت أو قدمت)؛ فليذهب بها لحجي إبراهيم الدرازي، مصلح الساعات الوحيد في جزيرة تاروت، بمهنية أرجعها كما كانت.
كم تسألنا بتعجب، من علم هذا الإنسان مهارة غير معتادة في البلد؟ ومن الذي دله عليها؟ المفارقة بأن أبناءه لا يعرفون من الأمر شيئًا ولا أحد منهم اتخذ المهنة.
نرى “السيطور” منبهًا مزعجًا يورد من “الكانتين” يتباهون به عمال شركة أرامكو، ويقبضون هدية التقاعد ساعة فخمة “رولكس” لكن بعد ماذا؟ بعد أن تقوس الظهر، واهتزت الركب، بالكاد يحركون الأقدام، صلاتهم من جلوس ! عطس تطاير رذاذ على عمر احترق آباء تركوا الفلاحة، والصيد، وكابدوا بين أبخرة الزيت، وأدخنة المعامل، من أجل تحسين لقمة العيش، ارتحلوا بصمت، ولم يوثق معاناتهم أحد، كأنهم لم يعبروا الحياة التي كانت مجلجلة بالكفاح والأخطار، ربما صورة عابرة في جريدة قافلة الزيت وهي الأخرى ضاعت في بحور النسيان.
من قال بأن لبس الساعة لمعرفة الوقت، هي اكسسوار زينة، وقدر من التباهي، ولو اخترعت عند الأولين لقيل فيها شعرًا وتتابعت أحاديث العنعنة بفضل لبسها يمينًا، وربما شمالًا حسب مزاجية الراوي أو المتفق عليه عند السلف! أمة لم تخترع ساعة واحدة فقط تباهت بالمزولة القابعة في بهو قصر الخليفة، والرعية عنها نيام.
ينادى بأن “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك “، جملة لفظ تائهة؛ لأن من شيمنا هدرنا الوقت، وإن كان الأمر مبالغ فيه، إذًا كيف أصبحنا آخر الأمم؛ فنحن لم نصنع ساعة واحدة من الأمس لليوم، ونخشى يطول للغد، ما الغريب في ذلك لا عجب، طالما ملابسنا لم تزل للآن مستوردة !.
هائمًا ولمع المرايا لماض يتجلى في الوجدان موغل في صفحات الذاكرة بتلاوين صور الطفولة.
وأمامًا من أوتي بدراجة هوائية فقد غنم مكأفاة نجاح عظيمة، زميلنا لم تسعه الدنيا هو يقود “سيكله ” أمامنا مزهوًا باستعراضاته البهلوانية على “ديحدرات” الديرة، يظن نفسه بأنه يسوق سيارة مرسدس، شبهه “حميدوه” بقائد سيارة، وهو يردد طرطقة عيسى الأحسائي “مرسدس وارد الألمان مكتوب على اللوحة خصوصي السعودية”، حسرة الفقراء مثلي ومثله التخيل والدندنة، ذات يوم طلبت من صاحب الدراجة ” أبغي أسوق سيكلك لفة”، يرد بتهديد مبطن “تعرف تسوق ” وبعد إلحاح وترجي أمسكت بالدراجة لكني لم أحسن القيادة بسبب المارة و”عناصيص” الأرض، وزاد الطين بلة حين أكل “الصنكل” من ذيل ثوبي وارتطمت أرضًا، تمزق طرفها السفلي واتسخت بـ”الكريز” وصرخة آتية منه “حول حول ما تعرف تسوق يا غشيم “، نزلت مكسور الخاطر، والتعليقات تلاحقتي من الرفاق بقهقهات وتنذر، صاحب “السيكل” دفعني للوراء لأني تسببت في حدوث ” فشخة خفيفة في الرفرف وركلة في الكفر ” ذهب لإصلاحها عند الحاج حبيب الخباز الكائن وسط سوق تاروت، أسفل مبنى نادي النسر، تمت وزنية الإطار، ثم ركب دراجته، وطار عنا قائلًا “ما أعطي أحد سيكلي مرة فانية باي باي “.
كم تحسرت بأنني لم أظفر لا بسيكل ولا ساعة، رسمتها أشكالًا حول معصمي تعويضًا عن أمنية مفقودة!
وكم انتابتني حالات السرحان بما كنت أتمنى من لعب الطفولة، كانت هديتي أثمن بأن دفعني والدي لإتمام القرآن مصرًا على أن أختمه كاملًا، وخيبت ظنه.
أرسلني مع ابن عمي كريم إلى الحاج أبو عبد آل درويش، الكائن منزله وسط نخل “المفضلي”، تعلمت بعض السور داخل كوخ واسع مبني من “الجريد “، وكان الأولاد متفاوتين في الأعمار جزء للتو يردد طوال الوقت الحروف “ألف لاشيله”، ونطق التشكيل بسم، باء كسرة بي، السين ساكن” وآخرون يعيدون تلاوة السور لمزيد من الإتقان، وبحثًا عن جودة القراءة بثقة أكبر، يطلب منهم معلمنا متابعة الضعفاء أو الجدد، امتدت دراستنا طوال العطلة الصيفية، الحيز الذي ندرس فيه قريب من فريق الأطرش قبل منطقة الخارجية بقليل، وهذا هو المفرح، والمأمل عندي، وبينما لساني يتلو كلام الله تفكيري شارد شمالًا، تكثر أغلاطي، ويشدد علي معلمي بألا أتجاوز أي آية إلا بعد النطق الصحيح.
مشتت البال وعبد الكريم أسرع مني تعلمًا، حين يرخصنا معلمنا أبو عبد، آخذ ولد عمي لمعامير أهلي وأنطلق به لأجواء المزارع وتدفق العيون، نقطف اللوز، ونفلق الرمان، وأوصتني أمي العودة بأن القشور لا نرميها نجمعها في “كفة” وتأخذه وتنشره مع قشور أخرى، وقبل أن يجف تضغطه بأناملها على شكل كرات صغيرة ثم تنشره ثانية ويصبح قاسيًا بفعل حرارة الشمس، ويسمى “كرورو” ليكون ضمن بهارات “مركة المطبوخ”، أصابعنا متلونة من أكل اللوز السكندري، نرجع من فريق الأطرش محملين بالحشائش، وسلة الرطب وبعض الخضار .
أبلغنا معلمنا الحاج عبد الحسين آل درويش بأن نحضر غداء الأربعاء صحن مع مبلغ وقدره ريالين، في اليوم التالي كل عند الوعد حاضرًا، حان وقت الضحى، ونحن نردد وراءه “المساية “:
تمسى يا معلم بالسعادة ومرنا بأمرك في الرواح، بدأنا بالنبي أحمد محمد رسول الله حي على الفلاح، وحيدرة أبي حسن علي مبيد الشرك في يوم الكفاح، وفاطمة وابنيها جميعًا هما السبطان أرباب الصلاح، وقال لهم معلمهم بقول يحثهم على فعل الصلاح؛ فيوم السبت أحضرونا لتحظوا بالرشاد، وبالنجاح، وفي الاثنين للدرس احفظوه كذا يوم الثلاثاء بلا مزاح، ويوم الأربعاء للخط خطوا خطوطًا ليس فيها لواح، وفي يوم الخميس ألا استعيدوا دروسًا في المساء، وفي الصباح، وجمعة كل أسبوع إليكم فتعطيل به خير انشراح، وصلى الله على الهادي وآله هدايا العالمين إلى النجاح “.
بهجة غامرة تكسو وجوهنا، والترقب سيد الموقف، واللعاب يسيل من بين الشفايف، اختار معلمنا أبو عبد الأكبر منًا سنًا لتوزيع الأكل، همة ونشاط من يوسف حجيرات يساعده موسى الرويعي لغرف “الحريرة” من القدر الكبير كل في صحنه، ينظمنا اصطفافًا حسين عبد الرحيم حماد، متعة طعام تحت ظلال النخيل، وفي اليد قارورة “فانتا”، وغرفة أخرى في صحن كل واحد منا “سهم للبيت”.
أجواء قرآنية ممتعة، وسارة، وتعلم بين المرونة والحزم، من لدن رجل وقور مؤمن طاعن في السن.
لكن أمي اكتشفت مع مرور الوقت بأني أتغيب عن حضور “المعلم” بسبب قرب المكان من فريق الأطرش الجاذب لي نفسيًا ومعنويًا ووجدانيًا، تقول أمي: ” أنت ويا ولد عمك كله تبغى تهيتوا ما تبغوا تتعلموا بس تبغوا تردحوا في المعامير “.
أخرجني والدي وأدخلني عند المعلمة أم علوي الدعلوج، وعندها لم أكمل حتى ربع أجزاء القرآن، ولا أدري سبب ضجري من التعلم.
ثم تابعني والدي بنفسه كلما جاء للبيت قادمًا من رحيمة للقراءة أمامه صباح كل يوم جمعة فهو لا يتلو فقط القرآن بل حافظ سورًا عديدة، ويستشهد أثناء أحاديثه ليس بآية واحدة بل يتبع الآية بالآية للإثبات، والبرهان حسب الموقف وما يتطلبه من تحولات الحياة،
كان أبي معلمي الأول لكتاب الله وعمري لم يتجاوز الثلاث سنوات، رغم التأفف، وثقل اللسان وحالات الحنق من شيء اسمه تعلم الذي عانيته كطفل سارح يحب اللعب، والعبث، والشخبطة والرسم، إلا أنني مدين طوال عمري لكل من ساهم في تعليمي بدءًا من والدي ومعلماتي ومعلمي، وكل المدرسين في جميع مراحلي الدراسية بلا استثناء، فلولاهم لكنت جاهلًا ضالًا ضائعًا، بكل الحب أنحني لهم وأقبل هاماتهم إجلالًا.
الهدايا المادية ربما تفنى وتنسى لكن الهدايا المعنوية آثارها باقية مع الزمن بل تبقى متغلغلة في الروح، شكرًا لكل من علمني حرفًا.
وتمسى يا معلمي بالسعادة دنيا وآخرة.