
حين تفتقد الأشياء البسيطة في حياتك، والتي لا تقدر قيمتها أو ارتباطك بها تشعر فيما بعد كم هي غالية، تشعر بقيمة “قرص التنور” أو “اللبن البقري” أو “الدجاج البلدي” ..! ، كنا صغارًا ملأت أجوافنا لقيمات نظيفة، وطازجة طالما ألفناها، وصحون فطمنا على نكهتها، وشببنا على رائحتها .. يشدني الحنين إلى الماضي، ويعتصرني الشوق إلى الأيام الخوالي، لا شيء عندي يقارن بذلك الزمن الذي تركنا، ومضى، والذي كانت أيامه تمر بطيئة هادئة مطمئنة لا فرق فيها بين يوم وآخر، ولا خوف، ولا توجس من غدرها وخداعها، وتربصها بنا، وانقضاضها علينا فجأة دون أن تعطي لنا فرصة الدفاع عن أنفسنا، كانت أيامنا فيما سبق تأتي هيِّنة ليِّنة نظيفة تنضح بالرأفة والرحمة، وكنا نلقاها كل صباح بالترحاب، ونودعها عندما ترحل بانتظار أن تعود فنلقاها في الصباح التالي، لم تكن الحياة عندما عرفتها صغيرًا ثم شابًا قد تجهمت ثم قست كما هي الآن، كانت رحيمة بسيطة لا تتطلب منا شيئًا كثيرًا؛ فكل شيء وأي شيء يرضيها، كانت هي البساطة بعينها، تعطي قليلًا لكنها في المقابل تتوقع الأقل، لم تكن قد بدأت على الأقل في مجتمعنا في هرش جبهتها، وتدوير أفكارها، وإنتاج نظرياتها، ثم تطوير النظريات إلى تقنيات، ومتشابكات جلبت علينا من الشقاء قدر ما جلبت لنا ما ظنناه من فرط سذاجتنا راحة وسعادة، إنني لا أحن فقط إلى سابق الأيام التي راحت بل أبكي عليها، أبكي الآن من ضغط الحياة، وقسوة الأيام التي أصبحت تعتصر قلوبنا من ركضها الدائم، وما جلبته من ضغوط رهيبة على أعصابنا، وما رافقها من إرهاق، وقلق، وأمراض، ومتطلبات سخيفة غير معقولة لم نكن نعرفها أو نهتم بها، وأبكي أيضًا على حياتنا التي عشناها قبل أن تغزونا مختراعاتها الحديثة التي غيرتها، وغيرتنا إلى غير رجعة.
تعي الذاكرة الكثير مما كان يطبع بيئتنا، وتراثنا الشعبي قبل أكثر من خمسين عامًا، كانت الحياة بسيطة، ولكنها غنية بالقيم، إلا إن هناك كان الفقر يعايش غالبية الناس، ولم نكن نعرف الحال ” المستورة ” خير من الرخاء وزيادة العيش، كنا رغم الفقر أقوياء، أجسامنا لا تعرف الترهل، كان فطورنا عندما نستيقظ عند الفجر مع الأهل شيئًا من الحليب الطازج، والبيض البلدي، والخبز العربي، نأكل بيضة واحدة برغيفين، ونغمس الخبز بالحليب، وكانت الأمهات يصنعن بعض الأكلات الشعبية، وهذا لا يحدث كل يوم بالطبع، حسب أحوال آبائنا؛ فكان أحدنا يأخذ مصروفًا، أربعة قروش ذات قيمة يشتري بها رغيفًا وحلوى، وكنا نتلهف على هذا الرغيف وهذه الحلوى، كانت كالشهد بالنسبة لنا نحن الذين تعودنا تناول الخبز الناشف، ورغم ذلك كانت هناك صحة، وكانت هناك قوة لا مثيل لهما، أذكر ونحن شباب أبناء سبعة عشر عامًا كنا نتبارى في حمل كيس من الرز وزنه في ذلك الزمن 70 كيلو جرامًا، وكنا نقطع مسافة الطريق من البيت حتى المدرسة على أقدامنا ذهابًا وإيابًا، ورغم هذا المشوار كنا نلعب، ونجري في المدرسة، وبعد عودتنا نذاكر، وبعضنا كان يذهب ليساعد والديه في السوق أو المزرعة، مرحلة مهمة من معركتنا الحياتية التي لا يعلمها كثير من الجيل الحالي.
كنا نحن أبناء جيل الآباء والأجداد، جيل الصلابة، والقوة يقطعون المسافات لقضاء مصالحهم
على أرجلهم، ولم يكن باستطاعة الكثرة منهم أن يركبوا السيارات، وبذلك لم يكن أمامهم – قسْرًا – سوى المشي.
كانت لنا في الديرة ذكريات الطفولة مع الخباز، والبقال، والخضّار، أصحابها من أهالي الحي، وكانت لنا معهم قصص، وحكايات وعلاقة حياة، ويعرف فيها أخبار أهل الديرة، ومشاهد من الفوز، والفشل، والكثير من المواقف، والحوارات، تعد من أجمل مراحل العمر الراسخة في زوايا الذاكرة .. نشتري الخبز، والطماطم، والعسلية، وكل ما نحتاجه من مؤن غذائية، كان كل شيء رخيصًا بقدر ندرة الفلوس، وتبقى ذكراها معهم على مر السنين.
ومن قلب الديرة نجد مساحة واسعة يطلق عليها ” البراحة ” كانت لها أهمية اجتماعية متميزة إذ كانت بمنزلة ملعب للأطفال، ومتنفس لأهلها، ومركز لتجمع عدد من باعة الأكلات الشعبية، والحلويات، والبقوليات، والألبان .. تغص بأطايب الطعام، تتزاحم، وتنتعش لكثرتها، وحيث يتقاطرون أهل الديرة صغارًا وكبارًا تقاطر الفراشات، يروحون، ويجيئون في قلبها، هذا يبيع وذاك يشتري، وهذه تقف بحشمة تنتظر دورها، وهذا يشارك رفيقه في التلذذ بالأكل، وهناك آخرين يقضون فيها وقتهم للتسلية، ولا يمكن لصغير مثلي أن ينسى تلك المتعة، كنت أجد تسلية كبيرة، وأنا في ساحتها أشاهد في كل يوم البراحة مكتظة بالناس يربطهم تقارب، وتجانس، مصدر هناءهم وسعادتهم.
تذكرت تلك المرأة بائعة الباجلاء، كانت تجلس في أحد زوايا الساباط، وأمامها قدر مغطى بقماش للحفاظ على حرارة محتواه، وبتلك القروش الزهيدة التي نمتلكها نستمتع بأكل الباجلاء، وأيضًا بائعة اللبن الذي اعتدنا على تناوله أيام الطفولة، وما زلت أتذكر طعمه الرائع الطافي على سطحه قطع الزبدة الصفراء، وجدنا أنفسنا أمام البساطة في أدق معانيها، هي سر جاذبيتنا لتلك الأيام !.. ففي تلك الأيام كنت أرى سلطة الطماطم، والبصل، وكسرة الخبز اليابسة، وأجدها ألذ من الشهد، نعم كسرة الخبز اليابسة كانت عندي أحسن، وأجمل وجبة في الدنيا كلها، ولم أكن أجرؤ أن أطلب من والدتي أن تعد لي مثل تلك الوجبة كل يوم.
أنا أترحم على تلك الأيام رغم مظاهر الفقر؛ فقد كنت أفرح حينما أتناول قطعة الخبز أو الرز مع اللبن، وكنت أراها أمتع وجبة؛ فكل شيء له صلة بذاكرة الطفولة لذيذ وجميل، أحيانًا يتذكر الإنسان لذة لطعام، وشراب ذاقه في طفولته، وقد لا يكون لذيذًا إلا إنه مرتبط بذكريات جميلة جعلت مجرد تذكره لذيذًا، وكم يقضي أيامًا باحثًا عن تلك اللذة فلا يجدها.
نتذكر دائمًا الأشياء المتوارثة، والعادات الضاربة في القدم، ومن يراجع تفاصيلها يكتشف كم هي بسيطة حتى في المأكل، وتحل معظم مشاكلنا الصحية في هذا العصر؛ فقد كشفت دراسة حديثة عن أن الأطعمة التي كان أجدادنا يأكلونها بإمكانها أن تحسن، وبشكل عجيب مشاكل السمنة أو زيادة الوزن؛ فالخبز أو الرز أبسط الأطعمة لا ينازعهما على مكانتهما شيء، ومهما أغرتك الوجبات السريعة والبطيئة، تأتيك لحظات تشعر معها أنك تتوق لكسرة قرص عربي أو لقمة أرز لذيذة.
التحوّل في مظاهر الحياة، واقتحام التكنولوجيا لحياتنا اليومية هي بداية تسللها إلى عادات، وتقاليد عريقة عشناها بحلوها ومرها.
لو تأملنا حالنا اليوم مقارنة بما كان عليه الآباء والأجداد، كيف كان الناس يعيشون ويكدحون خلال النهار بجد ونشاط، ولو تأملنا في المقابل في الوقت الحاضر لوجدنا حياتنا مليئة بالأخطاء الغذائية، والصحية، والنفسية المدمرة التي أصبحت سمة يومية، والدليل ذلك الإرهاق، والتعب، والخمول، وقلة الإنتاجية، وما تحمله من نواقيس خطر على الشرايين التاجية، والغضاريف المتآكلة.
رحم الله أيام زمان كانت الأكلات لها نكهة وطعمًا مختلفًا.. كون مكوناتها طبيعية، وتم إعدادها على نار هادئة بحيث يكون متقن الطبخ وجيد الهضم، كان اللحم له مذاق، وكان الشحم يعطي الرز نكهة دسمة لا تقاوم، وكان الخبز عربيًا لذيذًا وطازجًا؛ فنجد حاليًا أن نوعية المواد التي كانت تستخدم في الماضي لم تعد تستخدم حاليًا، معظم المواد الزراعية، والغذائية افتقدت مقومات الطعم الطازج الذي ذهبت به ثقافة التعليب، وطناجر الضغط البخاري، والميكرويف، وبعض الأواني، وأدوات الطهي المطلية باﻟﻜﻴﻤﺎوﻳﺎت اﻟﺨﻄﺮة، كما أن التقنيات الحديثة لعبت دورًا كبيرًا في عملية تخزين، ومعالجات الغذاء، مما يحول دون تذوق الطعام الذي كنا نعرفه أيام زمان؛ لقد تبدَّل حالنا فانتقلنا من قصة البساطة بكل تفاصيلها الراكدة الهادئة إلى الإيقاع الراكض.
إن كل ما تدفعه لنا مزارع اليوم، ومصانعه ما هو إلا مصائب تحمل كل ضرر، وفساد وسموم، وملوثات أخلت بتوازنِنَا، وجلبت لنا مخاطر، ومشاكل عديدة لم يقدر الإنسان على تحملها، إننا في حاجة إلى دور إيجابي متفهم واعٍ، فلا يكفي أن نضع اللوم على تلك المزارع والمصانع وبأنها مصدر لبلائنا، بل الأمر يحتاج منا وعيًا وإدراكًا بجوانب غذائنا وما ندفعه لأفواهنا.
تخلينا نحن جيل اليوم عن كثير من تلك الكنوز الغذائية التي تمتع بها آباؤنا، وأجدادنا وطرنا وراء كل مطبخ شرقًا وغربًا، تنازلنا عن تلك الأطعمة الطبيعية وانغمسنا في معركة التهام كبرى حتى فقدنا توازننا، وأصبحنا نلمس كيف أن غذاءنا صار داءنا، وكيف أن أمراض العصر أصبحت تلاحقنا، وتهددنا كسبب مهم للمرض بل ربما الموت؛ فماذا أضافت لنا الحياة المعاصرة ؟! في حسرة نتذكر الأيام الخوالي؛ الذي لا يعلمه كثير من الجيل الحالي لقد تحولت أجسادنا المترهلة إلى مشروع إصلاح بشري، جيوب ممتلئة بالريالات التي يعتقد أصحابها أن بإمكانهم شراء الصحة بالمال .. ، والمال فقط ..! ما الذي يدفعك إلى دفع المبالغ الطائلة وراء إجراءات علاجية في الوقت الذي تستطيع أن تعطي فيه أولويات للصحة، والتغذية الجيدة الأجدر بالاهتمام ..؟
في هذا الوقت بدأنا نلحظ غالبية الجيل الحالي يجلسون كثيرًا ويأكلون كثيرًا، بدأ الترهل، وشكل السمنة وآلام المفاصل .. يزحف على بعضهم، والأمر في زيادة، ودارت عقارب الزمن حتى لم نعد نحس أنها تدور لسرعتها، حيث أصبح الناس يُنفقون المال لإصلاح الخلل في أجسادهم، وإذ هناك من يحملونهم إلى المستشفى لمرضهم، ومن يذهبون بهم إلى الخارج لعلاجهم، وبتنا نسمع عن أمراض ما كنا نسمع بها أبدًا، وموتى لأسباب غريبة، وبعد أن كان الناس في بيئتنا يتفاخرون بأنهم لم يذهبوا قط إلى طبيب، أو لم يغادروا حدود الديرة من أجل العلاج، أصبح هناك حكايات، ومواويل، وقصص لمرضى دخلوا المشافي، ولم يكن لهم خط رجعة، وضاعت الصحة وسط هذا الطوفان وزحمة الحياة!
الكثير منا ينظر إلى ماضيه نظرة رضى وحنين، ونرى أن الأيام الخوالي أسعد، وأحسن من الحاضر، تلك الأيام التي وجدنا فيها البساطة، والقيم الرفيعة، وكل المعاني الجميلة، تلك الأيام التي خلت من هموم الحياة، ومشاغلها ومشاكلها، تلك الأيام التي نرى سلطة الطماطم، والبصل ألذ طعام، وكسرة الخبز اليابسة ألذ من الشهد، أين نحن الآن من روعة ذلك الزمن الجميل؛ القلب النابض بالحب، والصدق، والأمانة، والتسامح، والرضا، والقناعة، والنقاء، زمن تعلمنا فيه ثوابت الدين، والعقيدة، والأخلاق، وكل القيم الجميلة تعلمناها ليس من الأسرة فقط، ولكن من أهل الحي، نهلنا الكثير من ينبوعه، إنه حقًا رائع وجذاب وجميل.
والسؤال هو : هل نحن نحتاج إلى العودة إلى عصر الشح، والإمكانات البسيطة حتى تعود أجسامنا قوية ورشيقة ؟! لنتعلم من سيرة الأجداد ما يحول بيننا، وبين العجز الذي أوله حرمان، وأوسطه عذاب، وآخره، استسلام، والعياذ بالله!.
منصور الصلبوخ ~ أخصائي تغذية وملوثات.