ثقافة بنكهة الحزن

هذا ليس عنوانا لرواية أو حكاية، هذا عنوان تاريخ وحضارة وثقافة ومشاعر إنسانية نبيلة, أكتب عند الساعة الثالثة فجراً وخمس دقائق وأرق ووجع، إنه سبب طارئ للحزن الصامت, و بعد أن فتحت قلبي لهذا الليل لتغادرني وحشة هذه الحياة, لا أدري واقعا عن ماذا أكتب في هذا النص,هل أتطاول وأكتب بحرية عن الحزن السخي وماذا سأكتب لكم يا ترى, هناك في وقت من الأوقات من عاب عليّ كتابتي لبعض النصوص الحزينة الدرامية ربّما كان عليّ أن أستشير جهة ما لأكتب نصيّ! أو ربّما كان عليّ أيضا أن أعرج إلى الفضاء لاستيراد أفكار للطرح واختيار نصوصي! ليتك تقرأني أيها القارئ في لحظة ذات سعادة, أعرفُ جدل المشاعر حيث لا مكان في راسي للصداع وإن لحزني ملائكة تحرسني وتحميني.

يقول أفلاطون : ( قمة الأدب أن يستحي الإنسان من نفسه ) وها أنا أقول : في نفسي حياء منك يا عزيزي القارئ لأنني كتبت حزني قبل أن أستأذنك، أرجوك لا تحاول لجم فرس جنوني حين أكتب ببذخ عن الحزن, فأنا أريد أن أعيش حزني سأنتقم من صمتي وأجلده بغصن الكتابة, أقسم أنني بوجع حقيقي حين تحملني الظروف على ارتكاب حماقة إزعاج أحد, فكيف يشعر بالفرح مَنْ يتعمد الإساءة ؟ لا أريد أن أوجعك بمقال بهذه النكهة رغم اقتناعي بأن نصي ليس مشروعا تجاريا, إنما رسالة مؤمنة بها بقوة.

أردت أن أكتب عن الحزن بحضارته وثقافته وبقداسته لينتهي ، بعد عدة سنوات من المعاناة الصامتة والحزن العميق لفقد صديقتي الراحلة سلوى ومن ثم فقد أمي الحنون فاطمة الحياة وشقيقي السعيد نوري الذي تربى على يدي, ها قلبي يقول: تنحيّ ودعيني أقول الحقيقة لا أدري ما إن كان سيكون قلبي بخير في السنوات القادمة من الحياة أم لا!

أخشع بقداسة حين أكتب عن الحزن ذاك الخشوع الحقيقي, الذي به تصعد روحي إلى السماء واشعر بمدى ارتفاعي عن جسدي، الخشوع الذي يجيء ربما بسجدة وركوع برؤية مشهد مؤثر تحت أي لون ، وبوجع رحيل الأحباء,أقصد هنا الخشوع الذي أسمو بصدق روحي أياً كان مصدره وسببه فإنني حين أحزن و أتوجع, أصبح معطاءة وسخية حتى في بذل الدموع.

ما يدعوني لكتابة هذا هو تأثري وغضبي من الأشخاص الذي يفتقدون للإنسانية ويكسرون القلوب بإسم المزاح والضحك والسخرية, ولعل البعض سيعلق ساخرا إن هذا الكلام يشبه مقال لكاتب عشوائي كتب بالصدفة, لكن ما قلته حقيقياً يبرهن إنسانيتي وإحساسي,و لهذا المقال أسبابٌ كثيرة منها اصطدام الأشياء بي هذه الأيام, إني أصطدم مؤخراً وأتأذى كي أصبح بوعيٍ أكثر, هزلت حتى تكدر خاطري وضعف قلبي حتى ظننت أني سأمضي إلى أمي, وفي شدة حزني يأتي إلي زوجي الغالي ويقول: كوني الأقوى لأجلك, أنا لستٌ سوداوية أنا الأمل والحب، أعترف إني كنت ولا زلت أمنح التفاؤل وأنشر الحب حين أكتب وأدرس طالباتي, لكنه دور الحزن ويجب أن يحترم البشر هكذا طقوس وأحاسيس ,هذا الوقت مناسب للاحتقان بالحزن أكثر لفقد شبابنا الشهداء, وعلى العموم فأنا لا أشعر باللحظة الكتابية إلا حين أكون أقرب إلى الحزن من الفرح.

إن قيمة الثقافة في بُعدها الأخلاقي والإنساني هو قيمة الاعتراف بالآخر
بالسابق واللاحق, قيمة الوعي المرهف هو أن تشعر أنك امتداد لمن سبقك أو لمن حولك خاصة عند الوجع والحزن.
يقول الفيلسوف الدنمركي سورين كيركغارد:” «يغرس الواحد منا إصبعه في التربة فيعرف الأرض التي ينتمي إليها من الرائحة التي يشمّها، وأغرس أنا إصبعي في الوجود، فينم عبيره عن اللاشيء، فأين أنا ؟ ومن أنا، وكيف جئت هنا؟ و ما هذا الشيء المسمى بالعالم؟ وكيف وصلت إليه؟ لماذا لم أسأل و لماذا لم أؤهل لأتطبّع بطرقه وعاداته؟ بل قذفت إلى جوعه وكأنما اشتريت من خاطف ملعون أو من تاجر أرواح؟ وكيف أصبحت مهتما به ؟ أو ليس أمرا طوعيا ؟ وإذا كنت مرغماً على تمثيل دور فيه، فأين المخرج ؟ بودّي لو أراه ؟.(شكرا يا سورين).

يا حزني النبيل أنا أمهد للقراء طريقا لنخرج في نزهة أوسع طريقاً ليست نهايته أنا ولا أنت أيضا ، طريق بهيئة البوح وبصدق الكتابة وربما لاحقاً بالاسترخاء,
إن لهاثي الدائم لافتعال المواراة أمام فقد والدتي أمرٌ متعب ، وخصوصاً حين أقوم بكل أمرٍ عدا أن أخبأه جيداً في عيني وقلبي, أنا مفضوحة حزنا وصدقا لذا وسادتي لا تعيريني صدفة أي حلم, حتى السكون لا يمنحني متكئا يجئ ويذهب بمزاج خاص, وهذا الكون لا يؤمن بالمستحيل لذا كان الحزن فرضية للحياة به بلا احتمال, واحتمال ضئيل للحياة بشق حياة, للذين يشوهون الأحاسيس ويعبثون بإسم المزاح سوف تشوه لكم الحياة الشق الباقي من حياتكم وتقبلوه كمزحة بحسكم السخري.

وهنا أعترف لدي فرط العاطفة والإحساس وإنه شأن مرتبط بشخصي منذ أمد طويل, كل مساء أتحضر للحزن بطقوسي الروتينية ألملم قوارير روحي أمرر ذكريات من فقدتهم بين جفوني, وأنتظر الدمع ليسقي قلبي أتمنى حينها أن أفقد ذاكرتي وأكون شخصا آخر غيري,وبعيدا عن كل هذا اشتقت لك يا أماه ملأ دمع عيني, وعدد المرات التي ترددت فيها للمستشفى ورقدت معك, وكثيراً لدرجة أني لو قابلتك الآن لعانقتك بكل حزن أملكه, وقبلتك بكل ما تملك روحي من عاطفة, ثم أبكي من هذا الحزن الصامت وأجعل يدي تستريح في يدك يا أمي,حيث لازلت أتذكر وأشعر بيديك الصغيرتين تمشطان شعري, ومازلت أنا خلف ردائك الأبيض أتلهف للسؤال عنك جارتك: أين هي طويلة القامة والشعر؟ هاأنا أضم رداء صلاتك وأشم رائحة عطرك الخجول, كبخور العود والريحان الذي لا يزال يفوح في أرجاء بيتك الصغير , أكثير علي أن أبكيك وأحزن عليك يا أمي؟

هل عشت عزيزي القارئ هذا النوع من الحزن بسبب الفقد؟
أحتسي القهوة منسجمة مع نص لي أن يتطابق إحساس الوحشة مع منتصف الليل حيث الليل في قلبي, وما الذي يستجلب الحزن فينا ؟ ليس في نيتي مخاطبة الجميع هنا وإلا سيكون الأمر سوء فهم لا يغتفر، أي لا أغفره لنفسي، و لستَ إعلاناً نهائياً أنني إنسانة حزينة ،أو أنا ارتديت صك براءة من الفرح والسعادة, تلك النشوة التي نلتقيها بغتة، ونحن نعيش حزنا لم نختاره، تولد على تخوم قلوبنا قناعة تدفعنا إلى أن نكون نحن بوفاء أقوى من خلال حلم وحب وحزن وحنان بل وحسرة ما بعدها , حيث أعشق الحزن كعشقي لقهوتي بالرغم من مرارتها, إلا إنني لا أستغني عنها هناك حزن ترف ، يمارسه البعض ممن لا يجد و لا يجيد فعل أي شيء أخر, وربما تكون للفرح أسباب ملموسة، لكن من أين يأتي الحزن ؟

للحزنِ فلسفةٌ ونكهة خاصةٌ جداً في يومياتي حتى أدمنته وامتهنته و أصبحتُ أتوقُ لتعليمه, فعلاقتي مع الحزنِ ، علاقة سرية للغايةْ نعم فأنا أحِبه أي الحزن كثيراً ، و هو أيضاً يحبّني لدرجة قريبة من العبادةِ ، و لذا و وفاء لهذه العلاقةِ الحميمة المدهِشة و الاستثنائية أجدني لا أفكّر كثيراً لمّا أخيّر بينَ ساعات طِوالٍ من السّعادة المزيّفة و المؤقتة ، و بين دقيقة واحدة من الحزن الصادق!

هي علاقةٌ أتهرب دوماً من الخوضِ في تفاصيلِها لخصوصيتها، علاقتي مع الحزن علاقة خاصة مدركة سرّ تلك الخلطةِ السّحريةِ التي تبعث من قلبِي الحزينِ إنسانة أخرى, صقلتني أحزاني و ربّتني فأصبحت أهدي السّعادةَ لمن فقدها, قد يفسره البعض بأن مقالي هذا دعوة للتعاسة والتحريض على الحزن, ولكني فقط أدعوا للتأقلم والتعايش مع الحزن لو داهمنا كما يجب ومن خلاله نخلق السعادة, نعم لابد من مصاحبة الحزن دون الهروب منه والكفر به.

لا أدري، الحزن مدى شاسع ، الحزن طفل يتيم لا يعرف الحنان ، الحزن تراتيل خالدة قد يرتلها الصغار باكرا, الحزن سمة الليل الطويل, بل هو فن صامت وقهوة عتيقة وذكرى بركن خاص وقلب مزدحم بالكآبة والحميمة في آن واحد,وهو العلاج الواقي الذي نفقد فيه إنسانيتنا لا ثروتنا, الحزن متعدد الألوان فمن المنطق أن يحزن الإنسان بمنطقية الحزن، بالنسبة لي أنا الآن أرى حياتي تنقص بين يدي ولا أدري ماذا أفعل ولا شأن للآخرين بذلك, وممكن أقول إن الحزن لا ينتهي و لا ينتهك.

سُئِل الممثل الشهير شابلي شابلن عن سبب حبه للمشي تحت المطر فأجاب : ( أنا أحب المشي تحت المطر لأنه لا يستطيع احد أن يرى بكائي( وهنا أتساءل كيف تحتج وتستكثر على نفسك وعلى الآخرين أيها القارئ، الحزن المفتوح وبلا توقيت، حيث الحزن هو مباح أيضا وبلا توجس، اختر لونك المفضل وكلمة تؤمن بها وتجول بكل فخر بين الناس بلا تذاكر للدخول وبلا أبواب، بطاقة الدعوة مفتوحة وخالية من التزييف والرياء.

لو وقفت أمامك يوما ورأيتني منحنية الظهر، فلا يأخذك الظن بأن انحنائي كان نتيجة ثقل صخور السنين إنه بفعل وجع الزمن, ترى إلى متى نبقى نصرخ عزيزي القارئ, أحيانا أتمنى لو توجد دموع للإيجار, في الأيام التي أكون فيها بحاجة إلى كمية هواء زائدة لملء رئتي, ابحث عن ردود وتعليقات القراء بسبب احتوائها على مشاعر جميلة ورائعة ليس اقلها الصدق والإحساس.

وأنا أعدّ نصي هذا من أجرأ ما كتبت على واقعيته حيث يقول الكثير بين سطوره، فالجرأة الأدبية في الطرح ليس عيباً في النصوص, شرط أن تكون موحية معبرة تقول أشياء وأشياء, وأنت يا عزيزي القارئ أنْ تكون معلقاً باهراً هنا ,عليك أن تستبطن مقالي باقتدار وتسوح في سطوره, لتلتقط اللؤلؤ المخبوء فترش عليه ما في روحك من ماء الورد.

قرأت ذات مرة: كل من أهدى حبيبته عطرا فارقها, ولطالما صديقتي سلوى كانت تهديني الورد والعطر, أقول شكرا للعطر الذي تركته هناك وحده مفتوحا كجرحي, عله يجف وأنسى وضعه على عنقي منذ رحلت , فشكرا لهذا الحزن المتوغل في بحور عيني بكاء ووفاء.

يراودني سؤال هو: لما نحن بشر سمتنا الحزن,وأيضا ماذا لو تعلمنا أن نحزن برقي وحكمة دون أن نؤدي أنفسنا و غيرنا ,لماذا لا يكون الحزن فنا ندرسه ونتعلمه كآداب الحديث مثلا, نتعلم الرقي في كل شيء و حتى بأحزاننا حيث ليس كل الحزن حزنا , الحزن مفهوم ذو عمق يفهمه البعض بطريقه أخرى،حتى تفريغ الأوجاع فن لا يتقنه الكثيرون, هذه هي حضارتنا ورثناها دموع وآهات ورثاء, فأي دعوة بعكس الحزن ستبقى مجرد ترهات ترمى في الهواء, حيث الفرح يوم استثنائي لا يمكن أن يكون كسائر الأيام هذا قانون سماوي أليس كذلك!

آه ألا يوجد مكان أخفي نفسي فيه، أبقى فيه ما أشاء وأبكي كما أشاء لأطلق صرختي وحدي, وقفت أنظر أعلى السماء وقد تناثرت النجوم فوق خد السماء, والطيور تحلق في السماء عاليا لتستريح, وعندما دخلت قاعة الجلوس شعرت بصمت يلف المكان ورائحة عطر جميلة أنعشتني, حيث بيني و بين هذا الركن حكاية فهي جمعت بين الأشياء التي أعشقها: القطيف القلم والقهوة والقلب في سطوري ستلمس يا قارئي الكريم هذا الرباعي متحدا معا.

لنمارس الفرح خلسة خوفا من أن يقبض عليه ونبقى بلا فرح.


error: المحتوي محمي