أنت فاشل!

يمشي الهُوينى في مزرعته التي يقضي فيها نهاره دائمًا، يُصغي إلى الصُّورة، إلى لغتها، يتأمل الفراغ السّاكن في مُعترك تفاصيلها.

لا ينفصل الإنسان عن الماضي، ليس فقط في الجانب التُّراثي، حياة من سبقونا، منازلهم، طعامهم، الأواني، التي يستخدمونها، حدائقهم، أساليب التّرفيه التي يقضون أوقاتهم في ساحتها، يُمارسونها بشغف، الإنسان في تلك المرحلة الزّمنية.

الماضي، الذي يُشغله، الذي كلّما استفاق من نومه صباحًا لا يخبو عن القيام برحلة إليه، كأنّه، يُشاهد فيلمًا سينمائيًا، البطل فيه طفل، ترعرع في كنف أسرته، التي تُوفر له ما يحتاجه من الأشياء المادية، إلا أنّه يُعاني من الإهمال الروحي والتّربوي، كلّ من حوله، يصفه بالفشل، لدرجة أنّه أصبح الجزء من شخصيته، يشعر دائمًا بالهزيمة في داخله، ذاته ينتابها التّوجس والخوف من المُبادرة، لا طموح يتقاطع مع وجوده في الحياة، يُمارسها الحياة كما تأتي، وإلى حيث تذهب، اللّعب مع الأصدقاء في الحارة، حافيَّ القدمين، حتى إنّ قدميه دائمّة التّشقق، ليست لديه ثقة بقُدراته، إذا جلس ليلًا ليُذاكر دُروسه، عيناه تجولان بين الكلمات، كالتَّائه، لا تعني الأشياء له شيئًا، سوى ما يُلامس شغفه، ما تشتاقه النّفس، هل ذاكرة دُروسك؟، تسأله أمه، يُجيبها: نعم، متى يجهز العشاء؟، يسألها ممدوح، وأنت كلّ ما يُهمك، هو إشباع بطنك؟، توبيخ من أمه، يُخرس لسانه، ولكنّه يشعر بالجوع، الآن.

أتكون تفاصيل حياتنا، تأتي مشهدًا سينمائيًا، نتعلق بأذياله بين الفترة، والأخرى؟!، ليتني أستطيع الهُروب من ذاكرتي، والتّمرد عليها، والانعتاق منها، وعدم تقبيلها كلّ يوم، كأنّها مشهد رُومانسي، تقُوم فيه بتقبيل خُصلات شعرها، وتشُمّ في شفتيها رائحة المسك، أو شيئًا يُشبه الاشتهاء إلى رائحة، يُجيد صُناع العطر فيها تقنية الدّخول إلى قلب الرجل، إنَّها مُجرد رائحة، تأتي مع أنفاسها، الرجل من السّهل أن تجذبه الذّاكرة، إن جاءت على شكل رائحة، أو نبض ألوان، إن بوح كلمات تنسجها الأنثى كم تجيد الأنثى حياكة ذاكرتنا.

“أنت فاشل!”، الحُروف الأكثر حُضورًا في دقائق يومه، يسردها حكاية إلى ابنه، الذي يعشق حيثيات الماضي، فقد علّمه أن يعشق الماضي؛ لأنّه السّبيل إلى غد أجمل.

تلك اللّحظات لا تزال في ذاكرتي تفاصيلها، جميلة برغم قساوتها، تظل تنعش الذّات، هي كالصَّوت الدَّاخلي، تُصغي له، يُؤنسك الصَّوت، تتمنى لو أنَّه لا بنتهي، أعيشها الذّكريات في واحة الاشتياق، أغمض عينيّ، لأستفيق مُجددًا، وأحثُّ الخُطوات بألوانها العاشقات إلى تحقيق أحلامي، يقُول ممدوح وهو يتأمل وابنه يُسابقه في التّأمل: إنّه يبتسم.

ألاحظك في كلّ مساء، تذهب إلى جدَّتي، أنت مُغرم بها، يسأله حسين.

أمي، ألا تُبصر هذه الأشجار، كلّ هذه الخُضرة، جداول الماء في الزوايا، هُنا تقرأ الحياة في تجلياتها، العصافير، تُزقزق، كأنَّها تُخبرك أنَّ في ذاتك ما يُشبه المُوسيقى، تأخذك إلى حيث الأمل، لأحاديث أمي حكايتي، أجالسها، أرشف من يديها فنحان قهوة عربية، لم تعدها، كالآخرين، للمسات أمي ما لا أستطيع توصيفه، يشدُّني، أعثر على نفسي الضَّائعة، أمسك بي، لأراني أشعر بي، كلّما لامستني الحكايا. نحن نختصر الزَّمان في حكاياتهنَّ، نعيشها الأزمنة في ذواتنا، لم نكن جسدًا معهن، ولكنَّنا نعيش معهنَّ، لتكن شغوفًا بُنيَّ بالحكايا؛ اقطف من بُستانها أجمل الثّمار.

كم أعشق حديثك عن جدَّتي، يقول حسين.

رمقه من طرف عينيه، وابتسم.

مرَّ الوقت سراعًا، عانق سواد اللّيل السَّماء، صدح المُؤذن بصوت الأذان، احتضن ممدوح ابنه، وتوجها لسبغ الوضوء، وفي طريقهما، قال حسين: كم أنا فخور بك يا أبي، فقد حوّلت الفشل الذي لاحقك من أفواههم سنوات إلى نجاح، فأصبحت نموذجًا، لأراك قدوتي، أريد أن أكون مثلك. ضغط على يديه برفق، وهو ينظر إلى الغيوم في السَّماء، وقال: بُني، يقول الروائي هاروكي: نحن لا نفشل، ولكن نجعل من الفشل طريقًا إلى النَّجاح، تأكد بُني، أنَّ كلّ هذا الخير، الذي تعيش فيه جاء بعد التَّعب، والألم، ولكنَّه جاء؛ أتعلم لماذا؟ لأنَّنا نعيش الأمل. إنَّ في داخل كلّ إنسان حكاية، قد يُفصح عنها ذات يوم، وقد يُفارق الحياة، ليبحث الآخرون عن حكايته رغبة في النَّجاح، كما نجح هو.

بُني، لتكن أمك قدوة لك، اقتنص اللّحظات، لتُصغي إليها.



error: المحتوي محمي