الأبعاد الفلسفية والشاعرية في كلمات راضي الرديئة

(ورقة أدبيَة تطبيقيّة في كتاب كلمات رديئة للشاعر والرسام العراقي ميثم راضي)

ربّما لا تتسقُ الفلسفةُ والشعرُ في سياقٍ تركيبيّ ضمنيٍّ واحِد كون الفلسفَة تصبُّ من معينِ عقليٍ محض والشاعريّة لا ترَى في العقلِ إلا عائقًا للمخيالِ المتكئِ على أساسٍ قلبيٍّ متشدِّقٍ لا يدعُ فسحةً للعقلِ كي يخوضَ بينَ جنباتِه. فالشعرُ خيالٌ وحلمٌ وفسحةٌ تأخذُ الملموسَ للمحسوسِ أمّا الفلسفَة فسعيٌ وراءَ الواقعيّة وطريقٌ أحاديٌ تأمّلي يفضي بكَ للمسلَّمات التي أبعد ماتكون عن الشعرِ والشاعريّة. فكيفَ يستطيعُ شاعرٌ مَا أن ينهلَ من فلسفتِهِ ويأخذَ بكَ عن طريقِها لضفّةٍ شاعريَّةٍ خالِصَة لا يشوبها شيء؟ كيفَ يجعلُ من العقلِ جسرًا يفضِي للقلبِ وأداةً يتحكّمُ بها كيفما يشاء؟
1- الفلسفة العامة في كلمات رديئة:
1.1 – مدخل فلسفيّ:
الفلسفةُ كلمةٌ يونانيّةٌ مشتقّةٌ من كلمتي (فيلو) وتعني الحبّ و (سوفيا) التي تعني الحكمة، أيّ أن اليونانيين يرونَ حبَّ الحكمةِ هو جوهرُ الفلسفةِ وحقيقةُ كينونتِها. وهم بذلك حاولوا التفريقَ بينها وبين السوفسطائيين الذين كانوا ينتشرون في كلِّ مكان وهم كما تعرفون من يدَّعون الحكمة وهم أبعد ما يكونون عنها.
وحيثُ يرَى سقراط أن الفلسفة هي : (البحث العقليّ عن حقائق الأشياء المؤدّي إلى الخير و أنّها تبحث عن الكائنات الطبيعيّة و جمالِ نظامها و مبادئها و علّتها الأولى.) يوافقهُ أفلاطون ضمنيًا والذي يرى أن الفلسفة هي: (البحث عن حقائق الموجودات و نظامها الجميل لمعرفة المبدع الأول و لها شرف الرئاسة على جميع العلوم) بينما يرَى أرسطو أن الفلسفة هي: (العلم العام و فيه تعرّف موضوعات العلوم كلّها فهي معرفة الكائنات و أسبابها و مبادئها الجوهريّة و علّتها الأولى) وهنا نستطيع ملاحظة التوافق التام بين الفلاسفة في تركيزها الكلِّي على العلوم كمادةٍ أساسيّة لا تخامرها العواطِف ولا الأخيلة ولا المتغيّرات الحسية أو اللا حسيّة كما يفعل الشعراءُ في إنتاج شعرِهِم. فما الذي فعلهُ ميثم راضي في هذه المجموعةِ حينَ أخذ بأبعادها الشاعريّة إلى أبعادٍ فلسفيّةٍ توغلُ في الفلسفةِ حدَّ جذورِها؟

1.2 – فروعُ الفلسفَةِ في الكلماتِ الرديئة:
للفلسفةِ كما نعرف عدّة فروع وقد عمَد الشاعر ميثم راضي إلى ترسيخ مفاهيم هذه الفروع بين جنباتِ كتابهِ الأدبيّ، وسأحاول في هذه الورقة تسليط الضوءِ على هذه الجنبات قدر الاستطاعة. والاكتفاءِ بذكرِ مثالٍ واحدٍ فقط على كلِّ فرع:
1.2.1: الأنثروبولوجيا:: وهو علم دراسة طبيعة الإنسان ومعرفة موقعيته الخاص بالمقارنةِ مع الطبيعة الحية الأخرى من معنى الإنسان الكامل إلى المجتمع الذي يجب على الإنسان أن يعيش فيه، يقول ميثم راضي: “أنتَ ضعيفٌ وهشٌ وعاجزٌ وقبيحٌ: مثل سنٍّ منخورٍ في لثةِ العالم… لكنك مهمّ. فعبرَك يتسرَّب الألم: كلّما عضَّ العالمٌ أحدًا ما”.
1.2.2: الأخلاق:: وهو علم يدرس معيار الخير والشر وتصرفات الإنسان وموقفه استنادًا إلى عادات وأعرافٍ صالحة ومقبولة عقليًا سواء كانت دينية أو اجتماعية، يقول ميثم راضي:” وكنا ننسخُ كتابَ أخطائكِ ونوزعه علينا: لكل واحد نسخة.. ثم نفترقُ لنطاردَكِ: مثل كلابِ الصيدِ وخلفنا الشرقُ على صهوة جوادٍ عربيٍّ لا يتعب.. ولكن الواحد منا حالما يقرأُ يٍتعاطفُ مع جمالِكِ ثم يبدأ بالمغفرةِ صفحةً بعد صفحة .. كان كلُ واحدٍ منا يخشى على حروقهِ الغاليةِ من سلامةِ الآخرين”
1.2.3: الجمال:: وهو علم يرتبط بتحديد الجماليات العامة وتحديد مظاهرها في الفنون والطبيعة بسياق تأثير الجمال على متلقيه. يقول ميثم: “أنا اليابسُ الذي كلما عادَت يدي منكِ: وجدتُ تحت أظافري غيمةً، وأنا الباردُ الذي يستعملُ غصنًا شابًا من جسدِكِ لينبشَ رمادَ العالمِ بحثًا عن الجمرة”
1.2.4: الميتافيزيقيا:: وهو ما يُعرف بعلم الما ورائيات وذلك لدراسة الوجود بما هو موجود بدايةً بالأنطولوجيا التي تبحث في الوجود نفسه وانتهاءً بالكوسمولوجيا الذي يدرس علاقة الموجودات بالكل، يقول ميثم: ” مرةً رأيتُ : دراجةً هوائيةً ملطخةً بالدماء… نهضت لوحدِها: مثل فرسٍ أصيلة، ثم بدأت تبحثُ خلال الدخانِ والأشلاء عن الولد الصغير الذي كان يركبها”
1.2.5: المنطق:: وهو علم قائمٌ على أساس انتظام الفكر وصحة نتائجه بين (المفهوم والحكم والنتيجة) وبين المنطق الصوري كأساسيات منطقية أصيلة وبين المنطق الرياضي وعلاقاته ورموزه كأساسيات منطقية حديثة. يقول راضي:” في مدرسةٍ بعيدةِ وفي الصف الأول الابتدائي طفلٌ لم يعرف العدد الذي يأتي بعد الخمسة، قال للمعلمة: أبي لم يعلمني أرقامًا أكثر من الخمسة لأنه عاد لنا بذراعٍ واحدة! في غرفةِ المديرة صرخت المعلمة: لم يعد الحساب ممكنًا في هذه الحرب التي تأخذ الستة من الآباء”
1.2.6: نظرية المعرفة:: وهي ماهية المعرفة وحدودُها وتهتم بدراسة العلاقة بين الذات العارفة والموضوع والمضمون، يقول ميثم راضي:” كان جدِّي يجفِّفُ السنوات السعيدة.. ليستخدمها في غير مواسِمِها”
1.2.7: نظرية العلم:: وهو علم يتناول الفرضيات والنظم والأسس اللازمة التي يبنى عليها كل علم من العلوم وذلك بالبحث في مناهج العلوم من حيث أسسها وأهدافها ومفاهيمها، يقول ميثم راضي:” عندما يربككِ ذلك السؤال عن معنى وجودِكِ وكيف يمكن للانكسار أن يصبح نمطًا سريًا للنجاةِ: تذكري أن عشاقَكِ كانوا مثل الوردِ البرّي يطلعون من شقوقِ النصوص التي تدعو للقتال تدوسهم الجيوش فتتعطر الهزيمة”
1.2.8: فلسفة اللغة:: وهي التي كانت تدرس نشأة اللغة وتطور دلالاتها لكنها انقسمت بعد فيتغنشتاين إلى تحليلات لغوية بين اللغوي المثالي واللغوي العادي المستخدم في الحياة اليومية. يقول ميثم:” لستُ مرئيًا كما يجب لأحبكِ في النهار، مثل ذئبٍ يخفي جيدًا أنه نباتيّ عن بقية الذئاب هاهو يركض معهم صامتًا ثم يموتُ من الجوعِ على أعتابِ الفريسة”
1.2.9: فلسفة التاريخ:: وهي التي تبحث في ماهية التاريخ ومعناه وسيره وتأويله منذ النشأة الأولى للإنسان، يقول ميثم:” مقابل كلِّ امرأةٍ أحبَّها وذهبت بعيدًا: أنجب ولدًا لينساها… عشرون عامًا وهو يفعلُ ذلك، وهكذا… صار عائلةً كبيرةً من النسيانِ ولم نكن نعرفُ ذلك عنه! حتى أخذت الحربُ أولادَه: وظلَّ ينادي عليهم بأسماءِ الحبيبات”

2 – الفلسفة الخاصة في كلمات رديئة:
بعدَ أن تطرقنا إلى الفلسفةِ كما تم تعريفها وتصنيفها لدى الفلاسفة وقمنا بالتطبيقِ عليها في بحثنا الاستقصائي في هذا الكتاب، سأتطرق في هذا القسم من الورقة عن فلسفةِ بعضِ الأشياء الخاصة لدى الكاتب وكيف يرى الوجود من نافذتهِ الواسعة.

2.1: فلسفةُ الخلود:: كيفَ يمكن تحقيق الخلود في ظلّ الأصل الثابتِ بين الوجودِ والفناءِ؟
يقول ميثم:” قال أبي: تعالوا سأزوجكم الليلة جميعًا.. ثم أخرج من جيوبهِ: مكعباتٍ كثيرةٍ من الطينِ الاصطناعيّ وبدأ يخلقُ لنا زوجاتٍ من كلِّ الأشكال.. حتى أخينا الذي مات قبل سنين كثيرة: خلق له أرملةً جميلةً وحزينة! وعلَّمنا في النهاية كيف ننام معهنّ وقبل أن يدخلنا عليهنّ.. سألناه: لماذا تفعلُ هذا يا أبي؟ قال: أريدُ أحفادًا.. عندما تُقطعُ رؤوسهم: أستطيعُ تركيبها من جديد!

2.2: فلسفةُ الموت والحنين:: في عالمٍ يضجُّ بالخرابِ والدمارِ واليُتمِ في مجتمعهِ العراقيّ، كيفَ يصفُ راضي كلَّ هذا الحنين؟ يقول: “قطعُ الأثاثِ الخشبيّة أيضًا تُكاتبُ الغابة.. مثل أبناءٍ بعيدين يكاتبون أمهاتهم! وحدها الشجرةُ التي صنعوا من ابنها تابوتًا.. لايصلها أيّ بريد!”

2.3: فلسفةُ الصبر:: لأنَّ الصبرَ يحتاجُ لخلقٍ أوَّلي قبل أن يُكتسَب في معركةِ هذه الحياة، يقولُ ميثم:” أيها الملاك المسؤول عن توزيع المفاصل.. امنح للفتاةِ التي سيُكتبُ لها أن تكون أرملةً: ركبةَ أب”

2.4: فلسفة العشق:: كيفَ يرى ميثم اتصال العشاق الروحي ببعضهِم ومقاسمتِهم بعضَهم البعض ذات المصيرِ والألم؟ يقول:” عندما كانت الشوارعُ جروحًا.. كان العشاقُ على جوانبِها: يعبرون نحو بعضهِم البعض.. مثل الغرز.”

2.5: فلسفة الفقد:: ماذا يفعلُ الفاقدُ بجانبِ الفقيدِ في آخر لحظة؟ كيف يحس؟ وما الصور والمشاهد التي تمرُّ في عينيهِ إبان هذا المشهد؟ يقول:” في جنازةِ الولدِ الصغيرِ قلنا: ما هذا الريش؟ رفعَ أبوه رأسَهُ ومدَّ يدهُ في الهواء، التقطَ واحدةً ثم صاح: إنها كلمة حمامة التي تعلَّم نطقها منذ يومين، نسينا أن نخرجَها من فمِه!

2.6: فلسفة الألم:: بعضُ المشاهدِ في الحياةِ تهديكَ حياة أجيالٍ قبلك وبعدَك، فكيفَ يفلسفُ ميثم الألم؟ يقول:” احفروا قبري بجرافةٍ عندما أموت.. فما رأيتهُ يؤهلني لأن أكون: مقبرةً جماعيةً لوحدي!

3 – كيف يفضي بك راضي إلى أعمق الأسئلة الوجودية الفلسفية في كتابه:

3.1: الإشكال الفلسفي الأول: التحقق من الوجود: هل نحن موجودون بالفعل أم لا؟ كيف نعرف أن هذا الوجود في الحقيقة واقعي وليس حلمًا كما يقول ديكارت في كتابه (تأملات في الفلسفة الأولى)، يقول راضي:
“قبل عشرين عامًا: كانت عندي خطةُ جيدة للهروب من هنا… خطة محكمة حيث لن يشعر أحد بغيابي، كل ليلة أفكر فيها وأراجع التفاصيل، كان يجب أن أضع في فراشي جذعًا مقطوعًا لهُ نفسُ طولي ونحيفًا مثلي، ثم أغطيه ببطانيتي وأذهب … في الحقيقة أنا الآن لا أتذكر: هل نفذتُ خطتي تلك أم لا؟ لكنني أخشى حقًا أن أكون قد نفذتها .. وأن هذا الذي هو أنا والذي ينادونه باسمي دائمًا، مجرد جذع مقطوع وجدته أمي في فراشي واعتنى به أبي كولدٍ له حتى كبر وصار شجرةً لها جذور وأغصان شجرةٌ كلما غادرها عصفورٌ وطار بعيدًا خططت مجدّدًا للهروب”
3.2: الإشكال الفلسفي الثاني: ماهية الزمن، وهل الزمن خطي؟ أي يسير بطريقةِ خطٍ مستقيم؟ أم أن كل شيء يعمل في دورات زمانية؟ يقول ميثم في قصيدته( التاريخ بصيغته الأنثوية):
“قلنا لها بعد ذلك: ولكن كيف سنعود لبيوتنا ونحن موتى الآن؟ ضحِكت .. قالت: ستأتي معلمة دين جديدة للمدرسة.. وسأتفق معها أن تعيدكم للحياة في الدرس الذي يتحدث عن يوم القيامة.. وبقينا أحياء للأبد حتى انتهت السنة”
3.3: الإشكال الفلسفي الثالث: التحقق من الواقع أو بصورة أخرى: هل العالم من حولنا هو الواقع كما يبدو لنا؟ كيف نعرف أنه في الحقيقة واقعي؟ وفي هذا الإشكال يقول راضي:
“أخبريني أن الأبواب مجرّد مستطيلات غبية وأنك ستنتظريني خلفها كخدّ .. حتى لو أدخلتُ عليك الموتى في الليل لغاية سريركِ .. قولي: لا بأس .. فأنا أرملتكم جميعًا”
3.4: الإشكال الفلسفي الرابع: مم يتكون الوعي؟ وماهو الوعي؟ وهل هو ملموس أم محسوس؟ وكيف نتعامل معه؟ وهل الشكّ هو حقيقة الوجود كما يقول ديكارت؟ أم أن التفكير هو أصله كما يقول سارتر يقول راضي في قصيدته (الكتابة باليد اليسرى):
“لقد كنتُ حجرًا في السابق.. في جدار سجنٍ ما حتى أنك لو كشفتِ ظهري الآن لرأيتِ آثار الخطوط الصغيرة التي يحفرها السجناء على الجدران كلما مرت عليهم الأيام ”
3.5: الإشكال الفلسفي الخامس: الإدراك، ومم يتكوّن؟ يقول ميرلو بونتي: “أن ذاتيتنا موجودة كجسمها في وقت واحد” كنظرةٍ أحادية باللغة والتواصل وليس كشيء غير مرئي” .. أما ميثم فيقول:
“إنها تمطرُ الآن .. ستتبلّلُ الحربُ التي تركتها في الخارج وتصعدُ الرطوبةُ في مفاصل القتال وتسيحُ البنادقُ مثل كحلٍ سافلٍ من عيون القضايا والأوطان ..” إلى أن يقول “يبدو هذا ملائمًا لأشعر بالسلام حول النار التي في الصالة”.
3.6: الإشكال الفلسفي السادس: الكينونة فقط، أو بمعنى آخر: هل يمكنني أن أكون وحسب؟ هل هناك سعادة دائمة ككينونة؟ أو تعاسة مستمرة؟ ماذا عن المتغيرات؟ وهذا الإشكال موجود منذ العهد السقراطي حتى أن سارتر عدّها مشكلة ذهنيةً محضة، ومايهمنا في هذه الورقة هو ميثم حيث يقول:
“أنت تلك المبالغة الصغيرة التي ستحدثُ على أعدادِ الذين يسقطون الآن … أنت تلك الثلاثة المضافة لسبعة عشر قتيلًا مثلًا .. ليصبحوا عشرين .. التاريخ يحب الأعداد العشرية”

4 – خاتمة:
في هذا الكتاب الصغير جدًا الكثير من الأبعاد السياسية والاجتماعية والفلسفية وهو مليء بكل مضامين الشعريّة التي تفضي بك إلى هذه الأبعاد، وقد حاول الكاتب حشد كل هذهِ الثقافة في نصوصه القصيرة .. وهو يعترف مرتين في بداية الكتاب تارةً وكذلك في غلافه الخلفي تارةً أخرى يعترفُ بأن كل هذهِ لا تعدو كونها محاولات ومحاولات فقط حيث ييقول: “تحاول الكلام مثل طفلٍ لم يعرف نارًا أكبر من عود ثقاب.. وعليه الآن أن يصف غابةً كاملةً تحترق”



error: المحتوي محمي