تشهد مدينة القدس الشرقية منذ تاريخ 14 يوليو الجاري تصاعداً في حدة المواجهات بين الشعب الفلسطيني وقوات الاحتلال الإسرائيلي على الرغم من سقوط مئات الجرحى، والاعتقالات العشوائية، وذلك في أعقاب عملية القدس التي أسفرت عن مقتل جندين إسرائيليين، وما أقدمت عليه سلطات الاحتلال من فرض حصار محكم على مداخل وبوابات مسجد الأقصى الشريف، ونصب بوابات وكاميرات إليكترونية، والتي تصب في تنفيذ أجندة إسرائيل العدوانية وتغيير معالم وخارطة المسجد تمهيداً لإعادة بناء الهيكل الثاني اليهودي المزعوم، وهو ما يعتبر سابقة خطيرة منذ عملية إحراق المسجد الأقصى في 21 آب 1969 حين قام الإرهابي اليهودي الأسترالي (دينيس مايكل) وبدعم من العصابات اليهودية المتطرفة، بإشعال النيران في المسجد الأقصى، فأتت ألسنة اللهب المتصاعدة على أثاث المسجد وجدرانه ومنبر صلاح الدين الأيوبي، كما دمرت النيران مسجد عمر بن الخطاب، ومحراب زكريا، ومقام الأربعين، وثلاثة أروقة ممتدة من الجنوب شمالاً داخل المسجد الأقصى، وبلغت المساحة المحترقة من المسجد الأقصى أكثر من ثلث مساحته الإجمالية (ما يزيد عن 1500 متر مربع من أصل 4400 متر مربع).
لا شك أن إسرائيل أقدمت على فعلتها، مستغلة حال الانقسام والتشظي الفلسطيني، وشلل وترهل السلطة الفلسطينية، وانشغال وضعف وتفكك النظام العربي الرسمي، في منطقة تسودها الصراعات والحروب الأهلية، بصورها وتجلياتها المذهبية والإثنية والمناطقية والقبلية، والتي تشيء بتقسيم المقسم وتجزئة المجزء، ناهيك عن موقف اللامبالاة إزاء القضية الفلسطينية، بل والدعم القوي التي تحظى به إسرائيل من قبل القوى الغربية وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية.
كما أرادت حكومة نتنياهو اليمينية من وراء إجراءاتها التعسفية إرضاء ودغدغة مشاعر اليمين المتطرف المتحكم حالياً في الشارع اليهودي.
غير أن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، فالهبة الشعبية القوية والمتصاعدة في القدس شملت الجميع على اختلاف مشاربهم ومنحدراتهم، بما في ذلك الفلسطينيون المسيحيون، حيث تجسدت الوحدة الوطنية بأسطع صورها، وتشكلت قيادة ميدانية مستقلة، أخذت على عاتقها تنسيق وقيادة الفعاليات الشعبية ضد الاحتلال، بعيداً عن القيادات التقليدية في رام الله وقطاع غزة، وكان الإصرار على مقاطعة الصلاة في المسجد الأقصى، في ظل استمرار تلك الإجراءات التعسفية، والتي من شأنها فرض التحكم والوصاية على المسجد الأقصى، الذي يمثل رمزية مقدسة لأكثر من مليار ونصف مليار مسلم، باعتباره أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وقد اختار الآلاف من الفلسطينيين مواصلة الصلاة في الباحات الخارجية للمسجد.
ضمن هذا السياق جاءت جهود خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز في مناصرة المسجد الأقصى، والعمل على رفع الحصار وإزالة البوابات والكاميرات الإليكترونية التي وضعتها سلطات الاحتلال، وذلك من خلال اتصالاته مع القوى الدولية المؤثرة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، الأمر الذي لم تستطع حكومة نتنياهو تجاهله.
هذا الصمود الفلسطيني في القدس والخشية من امتداد المواجهات لتشمل المناطق الفلسطينية الأخرى، مما قد يمهد الطريق لاندلاع انتفاضة ثالثة، ناهيك عن التداعيات الخطيرة على الصعيدين العربي والإسلامي، وهو ما أجبر حكومة نتنياهو على إلغاء إجراءات الحصار، والعودة إلى الوضع السابق للمسجد، وقد قدر عدد المصلين في أول صلاة في المسجد الأقصى بحوالي 100 ألف.
أثبت الشعب الفلسطيني أنه يجسد بحق أسطورة طائر الفينيق الذي كلما ظن البعض أنه مات واندثر، غير أنه يولد ويقوم من الرماد من جديد.
الحال الفلسطيني ينطبق عليه المثل العربي، ما حك جلدك مثل ظفرك. السؤال هنا: ألم يحن الوقت للملمة الانقسام والتشظي الفلسطيني وتجاوز المصالح الفئوية الضيقة، وذلك على قاعدة الوحدة الوطنية، وصياغة برنامج وطني لمقاومة الاحتلال حتى تحقيق المطالب الفلسطينية العادلة والمشروعة، في جلاء الاحتلال عن الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وتعويض وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم.