رشفة قهوة مع اللغة الإنجليزية

لعل أصعب جزء لي عند الكتابة هو اختيار الموضوع, فالموضوع لا يكشف عن نفسه بسهولة ولكنه يظهر ويتضح فيما بعد! لم أكن أرغب في ا لكتابة ولا الحديث علنا عما سيلي سرده عن علاقتي باللغة الإنجليزية, ولكن السعادة غمرتني عندما داهمتني فكرة الكتابة عن هذه اللغة, فاكتشفت إنني عاشقة لها وهي منتشرة في سمائي بجمالها وكمالها, طالما أرتشف أفكارا ومواضيع وأحاسيس من خلال فنجان قهوتي, دون أن أنسى أن أضع حليبا لأتمتع بارتشافها!

لعل الكثير يتساءل بشأن هذا العنوان وما فيه من معاني وما علاقته بالمضمون؟
لقد تعمدت أن أضع هذا العنوان الذي يبدو مثيرا, بل ليكون بمثابة رمز يتجاوز الموضوع المباشر لهذا النص, ولا أكتمكم سرا فقد اخترت هذا الموضوع لفضولي الفكري تجاه اللغة الإنجليزية التي أعتبرها هبة من السماء, وكأنه قدري إن أرسم للغة خارطة الزمان والمكان, وأجمع مفرداتها كأنها حبات لؤلؤ أصيغها بطريقتي وفلسفتي.

نحن نواجه ثورة اتصالات في أيامنا هذه تجعلنا نعتقد بأن اللغة تلوح في الأفق, ومما لا شك فيه أن اللغة الإنجليزية قد أصبحت الأكثر استخداما في جميع أنحاء العالم, وتستخدم في كثير من مجالات الحياة, و أدرك تماما إن تحدي اللغة هو اكتشاف جمالها ومساحتها ومن ثم التألق بممارستها وهذا ما نطمح له, رغم إن اللغة العربية الأم تسري في عروقنا, وهي لغة القاف والطاء والياء والفاء عفوا قد تحسبوها القطيف وإن كان ذلك فلا بأس! وهي لغة الأجداد ولغة القرآن وأؤمن بأول كلمة نزلت في القرآن الكريم أقرأ وأنا أقرأ كل شيء وكل ما تقع يدي عليه وخاصة الكتب الإنجليزية, حيث أعتبرها لغة حبلى بالجمال وبالثقافة وبالتجدد و بالتواصل دون جدران دون فواصل وكأنها حمامة بيضاء وأكيد لا تنجب إلا بياضا! البعض يرى اللغة تنتعش وأنا للأسف أراها تحتضر لأن كثرة الدارسون وقلة الممارسة هي السبب في احتضارها وأنا أخشى أن تصبح هذه اللغة مقبرة منسية لمن لا يتذوق حلاوتها وقف عند بساطتها! ومما يثير دهشتي إن اللغة أصبحت ضحية الغموض والإبهام وربما هذا مرجعه إلى ضيق أفق في الثقافة الأجنبية والتجربة الإنسانية.

أنا الآن أحتسي كوبا من القهوة اللذيذة الساخنة فمع كل رشفة أشعر بالسكينة والهدوء ومع كل كوب من القهوة أعلن عن موضوع جديد مليء بالصدق والجرأة الأدبية هي حالة من السلوكيات وقد يشاع لدى الكثير منا! لأعود لموضوع اللغة قبل أن أنهي كوب قهوتي! تتجدد هذه اللغة دائما في خيالي وعلاقتي بها علاقة حميمة, ولعل كل واحد منا يتجدد يوميا بل كل لحظة لو تأمل ذلك لأبحر في دنيا اللغة فهو إبحار ذو شجون! اللغة الإنجليزية هي أكثر من مجرد وسيلة تواصل إنها طريقة لبناء العالم وبوابة تنفتح على ثقافة معينة وهوية محددة.

ولأني أريد أن أبدع أعود وأرتشف رشفة من القهوة, ولكني أشعر بالذنب ولست أدري كيف لي بهذه التفاصيل لعشق هذه اللغة !! كل ما أدريه أن شغفي وعشقي لم يعد سرا يسكن صدري, بل أصبح ملكا مشاعا لا شمس لا مطر لا غيوم وكل الأشياء أنساها أمام هذه اللغة, سأقف دون دهشة لأمتطي ثقتي بنفسي واعتلي شموخ كبريائي, لأكتب عن تجربتي وفلسفتي في اللغة واستطيع أن أقول رغم إنني أجهل الكثير عن اللغة ولكنها في اعتقادي تجربة مثيرة .

لقد استخدمت اللغة من مئات السنين وانتشرت, وهي من أسهل اللغات تعلما وإفادة وهناك ما يقارب ثلث سكان الأرض يتكلمون الإنجليزية كلغة ثانية, أنا أثق بأن كل فرد منا بداخله كما هائلا من المشاعر اللغوية سينسج خيوطها وسيستبيح مفرداتها! إنه لشيء جميل أن نستثمر الكلمات الإنجليزية بدلا من تدميرها, مما يجعلني أشعر بالأسف لفقدان ونسيان أي كلمة دخلت فكري وسمعتها إذني.

أرجوا يا عزيزي القارئ أن تعتبر نفسك مسافرا وإن الطائرة ستقلع بعد قليل, فبادر بشد حزامك وحلق وتحرر من عقدة اللغة الإنجليزية ووجع الإحراج عند التحدث أمام الآخرين. دعونا نقشع الغبار مؤقتا عن سماء اللغة ليولد فينا رغبة المعرفة والتمكن من إتقانها.

أيها الأعزاء هناك مسؤولية, ولعلني أقول حان الوقت لأن نتواصل بهذه اللغة, وهناك فكرة تحمل تشجيعا لجيل جديد يتلمس طريق الإبداع, و سأحتضن قدراتك الإبداعية فأنا أؤمن بالتطور والإبداع, ما أفكر فيه حاليا هو تعديل محتوى ورؤى بعض النصوص الإنجليزية في دوراتي القادمة , ولأني اعتبر كتابة دروسي الإنجليزية التعليمية المتواضعة فعلا مقدسا, وما أفعله يشكل هويتي الحقيقية من أجل إنسانيتي ومن أجل مدينتي القطيف, حيث تدريس اللغة اختياري وحريتي وهو الأكسجين الذي أتنفسه نقيا, وأقاوم من أجل تفادي الكسل وقهر الوقت لإثبات وجودي.

اعترف إنني لست بمدرسة عربية ولا إنجليزية ولا أضع نفسي في خانة الكتاب, ولا أدعي إنني مثقفة ولكني أدرس طالباتي استجابة لمزاجي وإحساسي, وطبيعة إلهامي التي تمليها علي ظروف اللحظة الفكرية, أستطيع أن أقول إن تدريس اللغة أنضجني اجتماعيا ولغويا ومنحني التدريس فضاء واسعا ومناخا إنسانيا, وأتاح لي التمتع بالوقت وبجوهر التجربة, و لن أنسى أن أنوه بدقتي وحرصي في اختيار مادة التدريس التي تليق بفكر بنات القطيف, اعذروني و نسيت نفسي وأصبحت أتكلم وكأني مسئولة ,عفوا سأتحدث بطبيعتي وعن نفسي أجد كل كلمة اكتبها تعبر عن حياتي الخاصة وفكري, ولا أنكر قد تكون مواضيعي غير مفيدة للبعض! ويطيب الإبداع لي من خلال رشفة أخرى من القهوة.

وهكذا تجدني أدخل في سعادة يومية مع طالباتي اللاتي تعرفت عليهن أكثر, ولم أنسلخ عن واقعي العربي حيث وجودي بين طالباتي ليس إلا إثراء لثقافتي وثقتي, وقوفي أمام الطالبات لساعات يوميا يجعلني إن أتواصل مع الناس مباشرة وأتعامل مع الحياة كما ينبغي, و كنت من قبل وأثناء عملي شبه معزولة ومع طرح دروسي الإنجليزية وجدت الواحة ملاذا وركنا للحرف.

أردت أن أنقل هذا العشق لبنات القطيف, فالتدريس مهنة سامية فيها عطاء بلا حدود, كما إن الله سبحانه وتعالى أوصانا بالعلم وبالقلم, الكتابة مع التدريس تخلق هذا الجسر الإنساني القائم على الفكر والقيم النبيلة والاحترام المتبادل, فأنا لا أدرس طالباتي لإرضائهن فقط ولا أكتب لجمهور معين, بل أكتب للقارئ الإنسان و للقطيف الأم التي لا يخلق معها ميعاد, بالرغم من الالتزامات اليومية إلا إنني أحمل أوراقي وأطرح دروسي الإنجليزية على أرضي القطيف, التي أعشقها في كل الفصول والأجواء بحرارتها وبرطوبتها وببردها ومطرها وبشمسها وغيومها.

وهكذا تمر الدورات الإنجليزية بالنجاح كما أتوقع, بل يدهشني سرعة الوقت فيداهمني كالبرق, ويعتقد البعض مبدئيا كون هذه الدورات لا تسهم في تطور لغتهم بشكل عام,فأعتبره وجهة نظر فردية لا تؤثر على هدفي بأي صورة! حيث إنه يفترض في المدرس أن يكون متعدد المواهب فهو أولا مبدع في إدراك حاجة الطالب وكيفية إقناعه بإدراك حاجته! إن مشكلة تدريس اللغة في مدارسنا محاولة تطبيق قواعد العربية على الإنجليزية, والمفروض أن لا نربط لغة بأخرى لاختلاف كلا منهما, وهل يمكن احتراف اللغتين معا أما شغف العربية أو هوى الإنجليزية ؟!

أردت من هذا كله أن أقول علاقتنا باللغة مليئة بالالتباسات, فالطالبة تنظر للغة بترف ومن المهم جدا وجود مفهوم اللغة, وحينها سنكون من أفضل تلامذة اللغة الإنجليزية! أثناء فصلي الدراسي تشعر طالباتي وكأنهن في بيوتهن, مما يضفي على المادة الإنجليزية نوعا من الانسجام والحميمة التي نفتقدها في المدارس, والبعض يرتشف من القهوة وكأنها إحدى طقوس اللغة الإنجليزية !

لعلك تسألني كيف أقف على اللغة وأقرع بابها ! أولا يجب أن يكون هناك باب مغلق وإلا لا حاجة لنا لأن نقرع! وأنا أفتح لك قلبي قبل بابي وأضع يدك بيدي لنبادر بالمسؤولية, وقد حان الوقت لأن نتواصل بالإنجليزي وأنا أعترف في وقت ما لم أكن أعترف بهذه اللغة! وها أنا أقرأ عنها كثيرا وأبقي مصباح غرفتي مشتعلا حتى الفجر, ولا أزال أقرأ وأكتب وعندما أنتهي لا يزال ضوء النهار حيا وبجواري أكواب قهوتي الفارغة!

يمكنني الآن الاعتراف بفخر وبملء فمي أنني نجحت وتمكنت, وهنا تستطيع طالبتي أن تخرج من يأس اللغة, هذا رهان صعب لكنه ممكن وهذا لن يأتي إلا بالعمل الجاد والتفاني. ماذا لو مارسنا اللغة كعادة يومية و كعادات كثيرة نمارسها ونحبها! صدقا لقد لمست البعض يتحدث اللغة الإنجليزية بشكل أثار إعجابي ودهشتي.

ينبغي أن أشير إلى إنه لولا الجو الملائم الذي وفره زوجي لي, ودعمه المليء بالحب والاحترام والتشجيع, لما تمكنت من التغلب على متاهاتي اليومية المتعددة! انتهت القهوة و رشفت آخر قطرة مع انتهاء نصي, لأبدأ يوما جديدا برحلة كتابية جديدة, ولعل هذه القهوة تعطيني طاقة لتخترق فكري, هذا الأمر اعتبره قبل أن يكون سلوك هو إحساس عند الكتابة وكم كان بالقهوة حلاوة ومرارة لم أشعر بها لأني مشغولة حينها بالكتابة.

سأختم موضوعي بحكمة بالغة مأخوذة عن لسان الشاعر التركي ناظم حيث قال:إن لم أحترق أنا وأنت فمن يا ترى سينير ظلمات هذا الكون!


error: المحتوي محمي