الإعاقة أمر واقع ومسلَّم بها، وهي ظاهرةٌ ملموسةٌ لها وقعٌ نفسيٌّ لا يعلمه إلا الله ومن يحمل هذا البلاء، وبعض الإعاقات ليس لها علاج، ويبقى صاحبها أسيرًا لها حتى نهاية حياته، كالإعاقة العقلية (الجنون) وبعض الأمراض النفسية الحادة غير السلمية التي يعتريها الشر، والتي تؤدي إلى أن يقوم المبتلى بها بسلوك يتولد عنه مخاطرة على نفسه وعلى غيره من دون شعور بمستوى خطورة هذه الأعمال أو بنتائجها الوخيمة، ويعرفها علم النفس بالاضطرابات السلوكية والانفعالية الحادة، وتختلف كل إعاقة في شدتها من شخص إلى آخر، وكذلك قابليتها للعلاج.
من مطالعتي في تعريف مفهوم الإعاقة وقفت على تعريف من دليل خدمات وزارة الصحة لذوي الإعاقة؛ إذ تعرف مفهوم الإعاقة بأنها “الإصابة بقصور كلي أو جزئي بشكل دائم أو لفترة طويلة من العمر في إحدى القدرات الجسمية أو الحسية أو العقلية أو التواصلية أو التعليمية أو النفسية، وتتسبب في عدم إمكانية تلبية متطلبات الحياة العادية من قبل الشخص المعاق واعتماده على غيره في تلبيتها أو احتياجه لأداة خاصة تتطلب تدريبًا أو تأهيلًا خاصًّا لحسن استخدامها”.
ليس المَعني هنا في المقال من يتصفون بالإعاقة العقلية، ذلك أن هذا النوع من الإعاقات فُقِد الأمل في علاجها وإرجاعها وتأهيلها إنسانيًّا واجتماعيًّا، وكما يعرفها الشرع بالفئة المرفوع عنها القلم، أي لا تحاسب عما يصدر منها من قول أو فعل، ولا تُقاضى من أي طرف لا شرعًا ولا قانونًا، بل يُرأف بها، وتُعامل معاملة إنسانية للغاية من قِبل المجتمع والدولة ومؤسساتها، ويحرم الشرع ويعاقب النظام من يحاول الإساءة لهذه الفئة تحت أي ظرف أو تصرف مسيء أو أي نوع من أنواع التنمر عليها، وتبقى هذه الفئة الاجتماعية لها وضعها الخاص والمميز أسريًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا.
إذًا، المعني في هذه الزاوية هم أصحاب الإعاقات الأخرى كالجسدية أو السمعية أو البصرية ومن شابه، سواء أكان أصحابها يحملون إعاقة جزئية أم كلية، على أن الحالة العقلية عندهم بمستوى غيرهم من البشر العاديين كالفهم والإدراك والشعور بالمسؤولية، علمًا بأن كل إنسان على هذه الخليقة مهما كان مستواه الجمالي أو العلمي أو الديني لم يخلقه الله كاملًا، بل الكل يحمل نقصًا سواء كان ظاهرًا أم خفيًّا، وكما يذكر المثل الشعبي “كل يمشي بعيبه ومرضه”، وهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه ومن هو مبتلى به، وهذه واحدة من حكمة الله سبحانه وتعالى وضعها بين عباده حتى لا يشعر أحد بعلوه على الآخر، وأن الناس جميعهم سواسية عند الله كأسنان المشط.
ومن يحدد بقاء ومصير وحياة هذه المجموعة (ذوي الإعاقات) هو مدى إرادتهم التي تنطلق منها قدراتهم الإعجازية والجبارة المودعة فيهم، وقد تفوق قدرات الطبيعيين غير المعاقين، وهنا يتفاوت مستوى إرادة وقدرات كل شخص عن الآخر حسب عمق ثقته بنفسه وأن لا شيء يقف أمام طموحه وأحلامه ومستقبله وأنهم قادرون على تخطي كل التحديات والصعوبات التي تواجههم، مما يصنع منهم تميزًا بشريًّا أمام أقرانهم من البشر.
والمعاق الناجح والمتميز هو من ينظر إلى الإعاقة على أنها أمر طبيعي ويتعايش معها على أنها حالة طبيعية خلقه الله بها لكي يتميز بها على غيره، وتكون له أفضلية في مواجهة التحديات والصعوبات التي تواجهه أثناء بناء مستقبله وحياته دون غيره في تحقيق طموحه وأحلامه، عندما يهدم فكرة الوهم التي تسيطر وتتغلغل في أذهان بعض المعاقين الذين يحملون نفس هذه الإعاقة أو شبيهًا بها، وتجعلهم أسرى لحالتهم، وتحولهم فعليًّا من معاقين جسديًّا إلى معاقين نفسيًّا وعقليًّا، ومن ثَمَّ تعتريهم الأمراض من كل حدب وصوب، بسبب استسلامهم لإعاقتهم. عندها ينتظرهم شفقة من هذا أو من ذاك.
شاهدت مشهدًا مذهلًا قبل أيام في واحد من مراكز التسويق لأشخاص من هذه الفئة برفقة والده، أثناء ما كنت في طريقي لركن سيارتي في المواقف المخصصة للمركز، وإذا بشخص (من ذوي الهمم) يركن سيارته في الموقف الآخر المخصص للأشخاص الطبيعيين، ولم يركن سيارته في المواقف المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة. بعدها بقليل خرج الأب من السيارة من جانب باب الراكب وليس السائق، وبعدها بقليل خرج الشخص الآخر من باب السائق بطريقة مختلفة تصاحبه بعض الصعوبات، معتمدًا في ذلك على نفسه كليًّا من دون مساعدة من أي طرف آخر حتى والده الذي كان برفقته. إنه شاب لديه إعاقة جسدية، ولكنه يمتلئ بالسعادة والرضا، نزلا من السيارة وهما يضحكان دون أن أعرف السبب الذي أسرَّهما وأسعدهما.
وأنا أتأمل المشهد فإذا بوالد الشاب يحدّق بي، وتبيّن أنه يعرفني، فتقدم ليسلم عليّ وعرّفني بنفسه، وعرّفني بابنه الذي يفخر به، وقال لي هذا ابني المهندس (فلان). تبادلنا التحيات والسلام على بعضنا البعض، ثم نقلنا الأب، للحديث في بعض الجوانب الاجتماعية وفي بعض ما كتبتُه من المقالات في هذه الجوانب مظهرًا إعجابه بها، ولكن كان ذهني منشدًا حول هذا الشخص (الابن) البطل كيف تمكن من القفز على إعاقته وانتصر على المعوقات والصعوبات التي واجهته، فوضعها جسرًا لكي يسير عليها، ويحقق عبرها أحلامه ويبني له شخصية متميزة ومرموقة ومستقبلًا مشرقًا.
إنه لم يركن سيارته في المواقف المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة، مع أنه واحد منهم مُنتمٍ إلى هذه الفئة الغالية على قلوب الجميع من أفراد المجتمع ومؤسساته، إلا أنه رفض أن يركن سيارته في المكان الذي هو حق له من دون منازع بسبب عدم رغبته بالشعور بالعجز ولو بهذا المقدار.
الإعاقة وإن كان ظاهرها مؤلم على أصحابها، ولا يشعر بها إلا حاملها، لكنها ليست نهاية الحياة، ولم تكن بالنسبة لمثل هؤلاء الأبطال عائقًا أو طريقًا مظلمًا تمنعهم من بناء مستقبلهم، لأنهم وبكل بساطة أصحاب إرادة حديدية حقيقية. أما من استسلم إلى إعاقته، وخدَّر إرادته الهائلة التي استودعها الله فيه، وهي تمثل القوى الفولاذية المخزونة في داخله والتي ربما تفوق أقرانه من البشر الطبيعيين، كان مصيره العجز والشفقة والبقاء عاجزًا طوال حياته ويظل معتمدًا على غيره.
ما ينبغي أن نلمسه ونعيه عند صناعة مثل هؤلاء المتميزين من أصحاب الإعاقات المختلفة، هو دور الأسرة الواعية والمتفهمة لحالة ابنهم، والفضل الأول والأخير يرجع لهم. هم من هيأوا البيئة القابلة والحاضنة لمثل هذه الحالات واستطاعوا بفهمهم ووعيهم وحسن إدارتهم تحويل ابنهم من إنسان عاجز ومتكّل على غيره إلى إنسان منتج ومعتمد على نفسه كليًّا، بل زرعوا فيه الشعور بالكمال والبطولة والتميز والفخر.