أحيانًا تقوم بقراءة قصة عابرة ذات لحظة، قادها الشَّغف باتجاه ظلك، كأنَّك تنتظر قطرات المطر أن تتوقف، لتُكمل خُطواتك ناحية أمنياتك، التي لا زال يُراهقها الشَّاطئ… العُشب، يُحدِّق في الشَّاطئ، يلمس دُموعه، ويبتسم… ما أغرب الحياة في تقلباتها، فما يُحزننا يومًا، تجده في آخر يُضحكنا… نحن نُمارس التَّناقض أولًا في ذواتنا، ونُحاول جعله على خط الاستواء، ثانيًا في أفكارنا، أقول إلى صديقي منير… كأنَّه لم يفهم ما أريد… قال: مع السَّلامة، نراك على خير.
تذكرت قصة “في قنينة”، التي للتو كنت أقرأ حُروفها، لولا اتصال منير، الذي فرق بيني وبين الوصول إلى آخر حرف فيها… لماذا لا تكتمل مُتعتنا الأدبية، لنتعتق أكثر، ونُجدف بأصابعنا، كي نتأمل… كأنَّنا لم نقرأ، هذا القول: لا تُغلق الكتاب قبل قراءة الحرف الأخير.
للأمانة والذَّوق، فإنَّي لا أعرف صاحب هذه المقُولة، إلا أنَّ هكذا كلمات، قد تُصادفها دون ميعاد، كعشق يدخل قلب أحدهم، دون أن يعقد معه موعدًا، أو يستأذن… يبد أنَّه ضرب من الجُنون، أو حالة من اليقظة المُتناهية.
رجعت إلى القصة، كالعادة أقوم بالقراءة الأولى، ثُمَّ مُقارعة ما وراء المعنى الظاهر، لاستنطاق القصة من خلال نسج قصة أخرى، قد يكون للولوج الغير مرئي طريقًا، كنت ذات يوم أراه لغزًا، لا أحبذ النظر إليه، ولا سماع ما يُقال عنه، أفضل أن أبقى في حرارة الشَّمس، فضلًا عن الجلوس لوقت في فك شفرة الكلم، لمعرفة المعاني، التي لم يُظهرها الكاتب، لتنساب على لغتي، وأنساب على خُضرة معناها.
أخيرًا… كانت مجلة فنية بين أصابعي، أقرأ ما تحتويه، فجأة: تذكرت كلمة لأحد المُفكرين، يقُول فيها: أيُّها القارئ، إذا أردت أن تقرأ، فاقرأ بعين ناقدة… لا زلت أصغي، وأمارس في هذه العبارة مهارة النَّقد، أيقنت أنَّ النَّقد، يُعنى بثقافة السُّؤال، ويُبحر في مُفرداته، ليصل إلى الضَّفة، التي تمنحه بعض من الإجابة، وليس الإجابة كُلها، ليستمر في السُّؤال.
في قنينة..
أكملت قراءة القصة، المُعنونة بـ”في قنينة”، يأتي أسلوب القصة، الذي اتخذته الكاتبة باستخدام مفرداتها الكلاسيكية في مُعظمه، والذي يتمتع بوميض من البلاغية الوصيفة، في بعض جُزئياته، لتدمج بين اللُّغة البسيطة، واللُّغة الشَّاعرية، الجمالية في السياق، لتدخل إلى القارئ بمُختلف ثقافته.
تدور أحداث القصة عن شخصية “مدحت”، الذي يجلس عند البحر، هاربًا من الحُزن والقلق، إلى حيث الاستشفاء بأجواء البحر، وزرقته، ورائحة أمواجه، مُنفسًا عن ذاته، لتأتي الحبكة تدريجيًّا برُؤيته قنينة في داخلها ورقة، تُوحي بأنَّ في داخلها ما يُثير الفُضول، ليسأل، ومعه القارئ يسأل، وهذا تعمَّدت الكاتبة اتباعه، لتُشرك القارئ في حيثيات القصة، كأنَّه شيء يهمه ويعنيه.
يكتشف “مدحت”، أنَّ رسالة مكتوبة من قبل “هاجر” إلى زوجها، ذيلتها بتوقيع، جاء “تأنيب ضميرك”، يتأمل كلماتها، التي يستشف منها البؤس، الذي تعيشه معه – زوجها – الذي طالما يصرخ في وجهها، طالبًا منها الخُروج من المنزل، كحالة رفض لها، في حين أنَّها لا تألو جُهدًا في توفير كلِّ مُقومات السَّعادة له.
تُشير من خلال الرسالة إلى حالة عدم الاستقرار الأسري، مما يجعل الحياة الأسرية بليدة، لا يُنعشها التَّوافق، لتكون أسيرة المشاكل، لترحل في نهاية المطاف، ويكون الفشل سيِّد الموقف… إنَّ الحياة الأسرية لا تخلو من المُنغصات، ولكن النَّجاح، يكمن في كيفية استيعاب الزَّوجين لها، ومُعالجتها من خلال التَّمتع بالأخلاق، ومُعالجتها، التي تعتمد على مُستوى الإدراك والوعي، الذي يُحبذ بـ”الضرورة”، لتستمر الحياة.
يُدرك في نهاية القصة “مدحت”، أنَّ الرسالة، كأنَّها جرس مُنبه له، حتى لا يكون رهن هذا الحُزن والقلق، الذي يعتريه، وعليه أن ينظر للحياة من زاويتها المُشرقة، فالحُزن والقلق، لا مفر منهما، ولكنَّ الأمل والتَّفاؤل أمر لا بد منه، فالحياة كما أنَّ فيها ما يجعلنا نتألم، فإنَّ فيها ما يبعث على الراحة، وينبغي الاهتمام بالثانية، لنستطيع التَّغلب على الأولى… استوعب “مدحت” ماهية الرسال، وأطلق العنان لخُطواته وقلبه إلى الحياة بكلِّ أمل وتفاؤل، كأنَّ لسان حاله يقُول: إن الحياة جميلة، وفيها ما يستحق أن نعيش لأجله، فقط لأكون مُتفائلًا، يحملني الأمل، لأبنه في الآخرين من حولي، لأسعد، ويسعدون.