لا أعلم ما الذي دعاه لمغادرة المنزل، فحين عُدتُ من الجامعة (السنة الأخيرة) وجدته يخرج من شقته دون أن يتحدث معي بأية كلمة!
حين سألت والدتي عن سبب ذلك قالت: الأمر بسيط ولكن بعض النساء تجعل من (الحبة قبة) فقد تشاجر أخوك مع ولده الصغير كما يتشاجر أي طفل مع آخر، ولكن زوجة عمك أقامت الدنيا ولم تقعدها، مما دعا عمك للخروج من المنزل دون أن يسعى للتفاهم!
قلت: وماذا قال أبي؟!
قالت أمي وهي تتابع عملها في المطبخ: لم يقل شيئًا. وتابعت أمي قولها: إذا كان عقل عمك بهذا المستوى فماذا نفعل؟!
مضى على هذه الحادثة عامان، والعلاقات مقطوعة، أبي متمسك برأيه وعمي كذلك، لا أحد يريد أن يتنازل! وسبق أن عقدنا عدة اجتماعات لحل هذه الأزمة ولكن المحادثات تتعثر بسبب العناد!
كنت أفكر في حل هذه الأزمة لتعود الفرحة إلى البيت وليلعب الأطفال مع بعضهم البعض، كنت أتمنى أن نعيد تلك الأيام حينما نجلس على (سفرة) واحدة، ونأكل من صحن واحد، ذكريات جميلة ولكن العناد حطّم كل شيء.
جلست ذات ليلة أفكر في الأمر قلت في نفسي هل يبقى الأمر بهذه الصورة أم ماذا نفعل؟! هل أبقى مكتوف اليدين، هل تتعثر المحادثات ونستسلم؟!
كنت أتصفح كتاب نهج البلاغة حتى وصلت لوصية الإمام علي عليه السلام، فقرأت: “وَصَلاَحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاَةِ الصِّيَامِ” (١). فخطرت لي فكرة، فقررت أن أنفذها ولن أخسر شيئاً.
شرعت في التنفيذ؛ ذهبت لوالدي وكان يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، سألته: ماذا يكون جوابك عندما يدعوك أحدهم لحضور حفلة خطوبة ابنته؟! نظر إليّ متعجباً من هذا السؤال المفاجئ! ثم أجاب: دعوته هذه تنم عن مكانتي عنده ولابد من تلبيتها، ولكن لماذا هذا السؤال؟!
قلت: لأن أحدهم جاء يدعوك لهذه المناسبة، وأصر على حضورك، لأنك كما قلت تمثل مكانة مرموقة لديه. سألني والدي: أفصح يا ولد من الذي جاء؟! قلت له: أخوك.. لم يجب أبي بأية كلمة واكتفى بمتابعة تصفحه لـ”تويتر”.
لم أستسلم لهذا التجاهل.. حدّثته بضرورة المصالحة، وكما يقول الإمام علي (عليه السلام): لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان (٢).
نظر إليّ وقال: هل زارنا في المستشفى عندما كان أخوك مريضاً، ومكث في المستشفى ما يقارب الأسبوعين؟! هل زارنا؟! أجبني، ألم تتصل به لحضور حفلة تخرجك في الجامعة وكنت تهدف أن تعيد العلاقات المقطوعة ولكنه لم يلبِّ دعوتك! يا ولدي دعك عنه فالقرار ليس بيده بل هو قرار (زوجته).
قلت له ولكن يا أبي هو أخوك، وأنت الأخ الأكبر، وعليك أن تنهي هذه المقاطعة بأية طريقة. دعنا يا أبي ننسى الماضي ونبدأ بمحاولة جديدة، وأنا على يقين أنه نادم على مقاطعته لك، ولهذا أرسل ولده لدعوتنا لحضور هذه المناسبة، أنا على يقين أنه يرغب بالمصالحة.
نظر إلي والدي وقال: ها أنت قلتها لقد أرسل ولده ولم يحضر هو بنفسه لدعوتنا؟ قلت: ربما كان مشغولًا أو خجلًا، دعنا نلتمس له عذراً وكما يقول الإمام علي (عليه السلام): احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة. وعند جرمه على العذر، حتى كأنك له عبد، وكأنه ذو نعمة عليك (٣).
نظر إليّ وقال: بصراحة يا ولدي هذا الكلام من الإمام علي (عليه السلام) يجعلنا في موقف الاستجابة.
ابتسمت وقلت: يعني هل ستذهب؟ ابتسم وقال: ليس باليد حيلة. قلت له: الموعد الليلة. عليك أن تتجهز فهذه حفلة خطوبة، عليك أن (تكشخ) كما عهدتك.
سألني أبي ماذا عنك أنت ألن تذهب معي؟! قلت له: لا فلدي موعد مع أحد الأصدقاء. حضورك يا والدي يكفي.
في المساء رأيت والدي قد لبس ثوبه وغترته وتعطر بأزكى العطور. قلت له: يبدو أن والدتي وضعت لمستها السحرية لتكون بهذه الأناقة. ابتسم والدي. وتفاءلت بهذه الابتسامة خيراً.
مضت الساعة والثانية وأنا في غاية الشوق لمعرفة ما حدث لأبي مع عمي، اقتربت الساعة للعاشرة والنصف ولم يعد أبي! قلت في نفسي هل وضعت أبي في مأزق؟ ربما ذهب لبيت عمي فلم يجد أحداً! قد يكون ذهب لديوانية أبو زكي كعادته. أو أن المحادثات قد تعثرت مرة أخرى. لماذا هذا التأخير؟!
عاد أبي في الساعة الحادية عشرة فسألته: لماذا هذا التأخير؟! ضحك أبي وقال: لأن حضرة العريس قد تأخر وصرنا ننتظره. قلت متعجباً: وأي عريس هذا؟! ضحك أبي وقال: ولماذا أنت متعجب؟! نعم العريس تأخر، وغضب عمك وقال: ما هذا العريس أيعقل أن يتأخر لهذه الساعة؟! قلت: وهل زينب موافقة على العريس؟! أجاب والدي: نعم قالت إنها موافقة وسمعت كلمتها بأذني، لماذا ترفض شابًا متزنًا، ملتزمًا دينياً، ذا علاقات اجتماعية، ولديه وظيفة مرموقة، كل المؤهلات متوفرة في هذا الشاب.
سألته وقد احمر وجهي هل كتبوا عقد الزواج؟ أجاب والدي نعم ليلة غد سيكتبون عقد الزواج ولابد أن تذهب معي. تعثرت الكلمات في فمي وتصببت عرقاً: لا يا أبي لن أذهب. لدي موعد آخر.
نظر أبي إليّ وربت على كتفي وقال: ولماذا أنت (زعلان)، {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37]. يا ولدي العزيز، ليلة غد سنذهب مع والدتك لبيت عمك وسنكتب عقد زواجكما أنت على (زينب).
قلت يا ولي لقد تشوش فكري وماذا عن العريس هل رفضه عمي؟! أمسك أبي أذني وقال: العريس هو أنت. ألم تسمع كلامي سنكتب عقد زواجكما أنت على زينب. {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور 27].
ثم ضحك أبي وقال: أحسنت يا ولدي. كنت خير مصلح.
الهوامش:
(١) نهج البلاغة الرسالة ٤٧
(٢) ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ١ – الصفحة ٤٣
(٣) ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ٣ – الصفحة ١٨٥٨