السعودية ثلاثة قرون من رفع راية التأسيس

يُعد مفهوم الدولة من المفاهيم التي تحمل اتساعًا أكثر من مفهوم الحكومة، ولم يكن مقتصرًا على حضارة دون أخرى، بل هو مفهوم شمولي، وكان سمة بارزة لكل حضارة لها خصائص ومميزات تؤهلها لتنظيم شؤون رعاياها بمختلف الطرائق، بما يتلاءم مع ظروف حياتهم الدينية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية، إلا أنه إذا وقفنا عند تعريف “الدولة” نرى تعاريف تختلف وتتعدد تبعًا لطبيعة تلك الاهتمامات، فقد طرح علماء القانون، والاجتماع، والسياسية، والتاريخ، والفلسفة، والاقتصاد، والأخلاق، والفقه وغيرهم الكثير، من التعريفات لها.

ونرى بالوقوف على تلك التعاريف أن هناك تداخلًا كبيرًا بين التعاريف، إلا أنه أقرب تعريف ما ذهب إليه المفكر الغربي “روبرت ماكيفر R.Maciver”، والذي يرى أن مفهوم الدولة مفهوم شمولي الأبعاد ولا يقتصر على بعد واحد بقوله: “تعد الدولة تنظيمًا أشمل من الحكومة، ولها دستورها وقوانينها، وطريقتها في تكوين الحكومة وتنظيم الشعب، ووجودها الخاص عادات وتقاليد، وبها دستور علاقاتٍ بين الحاكم والمحكوم، يتقدم دستورها بما يتفق مع مصالح الحاكم والمحكوم، ويقوم دستورها أيضًا على تنظيم العلاقات الخارجية مع الآخرين في كافة الأبعاد..”.

وجاء تكوين الدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود سنة (١١٥٧ هـ / ١٧٤٤م) من هذا المنطلق، ومن تلك الأهمية، والتي انتهت سنة (١٢٣٣ هـ / ١٨١٨م)، وكانت إمارتها ومنطلقها (إمارة الدرعية)، ومن ثم تبعتها الدولة السعودية الثانية (إمارة نجد)، وكانت قد بدأت بعد سقوط الدولة الأولى إلى أن انتهت سنة ١٣٠٨ هـ / ١٨٩١م.

حيث رأى الإمام محمد بن سعود (رحمه ﷲ) في الشعب السعودي آنذاك، أفردًا وقبائل يقيمون بصفة دائمة في أقاليم ومناطق مختلفة، تحكمهم عادات وتقاليد وأعراف وأخلاق عربية وإسلامية أصيله_ أنه من الضروري وجود سلطة تنظم معاشهم وحياتهم، وما ينجم عن تفاعلهم من عمليات اجتماعية كبيرة، بحيث يتحولون إلى شعب متميز وقوة لا يستهان بها، فتحقق الحلم، فها هي المملكة العربية السعودية منبع الخير والعطاء والسؤدد، ومنطلق التوحيد عربيًّا وخليجيًّا ودوليًّا.

كما اعتمدت الدولة السعودية الأولى في تأسيسها كدولة على عدة عناصر مهمة، كما هو حال أغلب المناهج في تكوين الدولة في الحضارات والشعوب والدول؛ إذ كانت المناهج والأسس التي يُبنى عليها تأسيس الدولة تتلخص في ثلاثة أمور مهمة، وكان لتأسيس بلاد الحرمين الشريفين آنذاك نصيب وافر منها، ألا وهي:

ألف/ تكوين الشعب:
العنصر الذي يتم الاعتماد عليه في بناء وتأسيس الدولة السعودية هو وجود مجموعات من الأفراد في أقاليم مختلفة من أنحاء الجزيرة العربية، وهي مكونات عربية أصيلة استوطنت شهبة الجزيرة العربية سابقًا، وتنحدر من أصول عربية أصلية لسلالات الشعوب والحضارات السابقة، بينهم تعايش وتعاون في مختلف مناحي الحياة، وبينهم اشتراكات في الطموح ووحدة الأصل، والدين، واللغة، والأخلاق، والعادات والتقليد العربية الأصيلة.

فوجد شعب الجزيرة نفسه محاطًا بهذا النسيج المتنوع فتوحدت رغبته في التعايش السلمي تحت مظلة “دولة”، تقوم على حمايتهم ونيل حقوقهم وإشباع حاجاتهم المختلفة وفق الشرع والنظام، حتى غُرس فيهم مفهوم الوطن، والذي يدلل على عمق العلاقة بين الأفراد ووطنهم، تلك العلاقة التي يطلق عليها اليوم بـ”المواطنة” الناتجة عن علاقة الانتماء المادي والمعنوي للوطن بكامل نظمه السياسية والاجتماعية والقانونية والشرعية والعلمية، والتي تجعل من الفرد مستعدًا للتضحية من أجله بكل شيء، لإنه يبتني على عقيدة راسخة في النفوس “حب الأوطان من الإيمان”، و”من ليس له وطن لا حياة له”.

باء/ تكوين الأقاليم:
تتكون الجزيرة العربية من عدة أقاليم مختلفة وكبيرة جدًّا، فهي تحتوى على مفهوم “الجزيرة العربية”، والتي كانت منطلق بعثة الأنبياء والمرسلين، ومهد الحضارات والشعوب المختلفة، وصفحات تاريخ البشر منذ آدم وختامًا بخاتم الأنبياء (ص)؛ إذ إن تكوين الدولة المنشودة لا يمكن إلا بتوحيد أجزاء الأقاليم المتناثرة في هذه الجزيرة، والمنتشرة في أطرافها الكبيرة، فكان نشوء “الدولة السعودية” الأولى، والذي اعتمد اعتمادًا وثيقًا على توحيد تلك الأقاليم تحت راية واحدة، وقيادة واحدة، ودستور واحد، فكانت السعودية.

هيّئت “الدولة السعودية” الأولى نفسها منذ ذلك الوقت، وبعد التأسيس ببسط سلطتها على كل ما تحتويه تلك الأقاليم من سهول، ووديان، وهضبات وجبال، وكل ما ينتج على الأرض وفي بطانها من ثروات مختلفة حتى أجزاء من البحار، فأصبحت – ولله الحمد – المملكة عصبًا اقتصاديًّا مهمًا، وهيبة يُحسب لها ألف حسب في المعادلات العربية والدولية.

جيم/ تكوين هيئة حاكمة:
الركن الثالث المهم الذي تأسست به “الدولة السعودية” الأولى تكوين سلطة سياسية تتمثل في هيئة حاكمة تقود الشعب، وتتولى تنظيم شؤونه الحياتية، وتعمل على تحقيق الأهداف المشتركة بين الحاكم والمحكوم، وذلك عن طريق رسم السياسات الداخلية، والإشراف على كل ما يحقق للوطن والمواطن الأمن والأمان في البلاد.

فمنذ يوم التأسيس ومرورًا بيوم التوحيد، وهو اليوم الذي أعلن فيه الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود (رحمه ﷲ) توحيد البلاد تحت اسم “المملكة العربية السعودية” في شهر جمادى الأولى عام ١٣٥١ هـ الموافق ٢٣ سبتمبر/ أيلول ١٩٣٢م أي قبل نحو ٩ عقود، وذلك بعد جهود استمرت نحو ٣ عقود من بداية تأسيسه للدولة السعودية الثالثة عام ١٩٠٢م؛ إذ يرتبط اليومان بشخصيتين تاريخيتين (بينهما نحو قرنين من الزمان) جاءا في وقت كانت تشهد فيه شبه الجزيرة العربية فوضى سياسية وفرقة وتشتتًا وضياعًا.

فقاد كل منهما البلاد في عصره من الفوضى إلى الاستقرار، ومن التشتت إلى الوحدة، ليؤسسا “دولة” دستورها القرآن الكريم وسنة الرسول الكريم (ص)، ويحكمها الشرع الحنيف، حتى جعلا من المملكة منهجًا ودستورًا وقدوة يحتذى بها في العالم، ويكفيها شرفًا اليوم أنها قِبلة المسلمين في أنحاء العالم.

وﷲ أسأل أن يحفظها حكومة وشعبًا إنه سميع مجيب الدعاء.



error: المحتوي محمي