يا للحياة!

ثمة أمور عديدة تجعلنا نَصِف هذا العصر بأنه عصر العودة إلى الوراء، فمنذ أن اكتُشف الطب الحديث ونحن في مواجهة تحديات أخلاقية، ولا يمكننا أبدًا أن ننتقص من حجم الانتصارات العظيمة التي حققها الطب الحديث، ولكن نتساءل: أين نحن اليوم من ذلك الطب الذي كنا نعتقد سابقًا أنه سوف يغير الكثير من المفاهيم القديمة المتعلقة بالطب الطبيعي أو الشعبي؟ وأين ذلك الطبيب المؤهل المختص والملتزم بأخلاقيات الطب الذي كان الأطباء يؤدونها عند تخرجهم في الجامعات؟

ولكن ما أفرزته أخلاقيات الطب الحديث، جعلنا أمام تحديات تصل بالقضية إلى مستوى الفضيحة الأخلاقية، والتي جرّدها من كل القيم الإنسانية، ولم يجد الإنسان ما يبرئه من أمراضه وعلله، أو يمكنه من أن يحيا حياة طبيعية صحية دونما مرض؟ واليوم بعد أن عمت الأمراض، توجهت أصابع الاتهام إلى الفكر المادي السائد الذي يقود أخلاقيات الطب، فأظهرت دليلًا قاطعًا على قيمة الإنسان، فهي أرخص ثمنًا من السرير الذي ينام عليه، ولم يعد هناك التزام بالمقاييس الدينية والأخلاقية.

كنت قد تحدثت مسبقًا عن الأخطاء الطبية في مقالة بعنوان “أخطاء طبية.. وفواتيرها الباهظة” نشرت في هذا الموقع بتاريخ 16 أكتوبر 2020 م، ويمكن الاطلاع عليها من (هنا)

وكنت أظنني وفيت الموضوع والرسالة التي أؤمن بها تمامًا، والتي تهدف إلى المعالجة الصادقة، ولكنّني تلقيتُ حدثًا مؤلمًا، واقعة طبية حدثت في مستشفياتنا، كشفت لنا مدى تدني مستوى العلاج وخطورة النتائج في أبشع صورها، هي وثيقة الصلة بحياة الإنسان، خطأ طبي يتدارك بخطأ طبي قاتل، فهناك مرضى يدخلون المشافي والمستشفيات على أرجلهم ويخرجون منها جثة هامدة، ظاهرة متكررة وواقع مسلم به.

من دون مقدمات، في ظِل التقدم التقني المذهل الذي شهده العالم خلال السنوات القليلة الماضية، نال المجال الطبي في بلدنا المعطاء نصيبًا وافرًا منها.
ولكن هناك مئات الأشخاص الذين يموتون سنويًّا نتيجة الأخطاء الطبية، وهذه الأخطاء البشرية المنشأ تتقدم في الترتيب على تلك السرطانات المريعة وأمراض الشرايين التاجية وأختها الدماغية، والمثير حقًّا أن الخطأ المميت يحدث في مستشفيات نفخر بأنها، تدار بالعقول الإلكترونية، كما أن أطباءها حصلوا على الموافقة بمزاولة مهنة الطب وإجراء العمليات الجراحية من جهات معتمدة منحتهم تصديقًا رسميًّا للعمل داخل غرف العمليات، بعد أن أخضعتهم لاختبارات عديدة وفقًا لمعايير ومقاييس الجودة المعتمدة لديها.

ومما لا شك فيه أن هناك عددًا من الأطباء الذين نثني عليهم كونهم حصلوا على أعلى الدرجات والتفوق وشهادات علمية اختصاصية تؤكدها ممارساتهم العملية بالفعل في مستشفياتنا، ولكنهم تمكنوا ونجحوا في تجسيد شخصية الطبيب الباحث العالم الذي لا يعنيه سوى البحث عن الحقيقة دائمًا، ويؤمن بأهمية التوثيق العلمي والكفاءة العملية، وهناك آخرون لا ينتمون إلى مهنة الطب ممن يشكل الربح بالنسبة لهم ومعايير أخرى الهدف الأساسي، دون النظر إلى سلامة ومأمونية العلاج، وشركات تمتلك مشافي ومستشفيات متخصصة مضت في في طريقها غير الأخلاقي الذي كان سببًا في قتل كثير من المرضى، ما يهمهم فقط هو تحقيق ثروات ضخمة مقابل عملية فساد ضخمة، فساهموا في تدمير صحة الناس، لا تحكمهم أية أخلاق أو مبادئ إنسانية، ونحن هنا ندق ناقوس الخطر بقوة أمام ضمير الإنسانية.

إن ما يحدث عندنا لهو أمر محزن، مرضى تزهق أرواحهم هدرًا، يموتون بخطأ طبي، لحظة إهمال أو لامبالاة من أطباء حديثي العهد في غرف العمليات، أوكل إليهم القيام بمهام في غاية الدقة والخطورة، أو من أشخاص ضعاف النفوس يتخفون في صورة طبيب، أشخاص عميت أبصارهم وبصائرهم فاستهتروا بقيم الإنسانية وهددوا صحة المرضى، لتأتي النتيجة السلبية بعدم قناعة وإيمان المريض بعلاج الطبيب، وصار المريض وهو يراجعهم يشعر بشيء من الخوف والقلق المتزايد، ويشعر بهاجس يلازمه من أن يكون حتفه على أيدهم نتيجة فساد علاجهم.

وهذا أمر مثير للحزن، أن يجد الإنسان الموت ينتظره في موقع ينشد فيه الحياة، أو أن يكون مصيره الشقاء بدلًا من الشفاء، هذا الهاجس والخوف الكامنان تحولا إلى علامة بارزة في مستشفياتنا!!

وهنا نطرح أسئلة أخلاقية كبيرة عن حق المراقبة والتدخل السريع من الجهات المعنية في تغيير سلوك بعض الأطباء، فأرواح الناس ليست رخيصة يا أطباء، والوفيات التي تُعزى إلى الأخطاء الطبية مطلوب فيها كشف حساب، فحياة الإنسان هي أغلى وأهم ما يمتلكه لأنها مرتبطة بحياته الدنيوية.

ولن نسمع بحجر أو تعليق عمل طبيب أو كادر طبي أو منشأة صحية بعد تزايد أخطائهم القاتلة.. وإذا كان هناك مكاشفة أو محاسبة أو إجراءات وقائية تجاه الأخطاء الطبية قامت بها إحدى إدارة المستشفيات؛ فهو من واقع “صحا ضمير القوم”! فالكثير من مشافينا لم نعهد منهم الشفافية مما يثير الشبه أو الريبة بحالة من الصراحة، ظاهرة تتنامى، هي مثال واضح لهذا الفساد، لا تحكمها أية أخلاق أو مبادئ إنسانية، كم من مرة فجعنا بصفة خاصة عندما نسمع خبر وفاة نتيجة خطأ طبي، وكم تألمنا ولا زلنا نتألم من هذا الذي يحدث في بلدنا المعطاء دون أن يبدو لنا في الأفق القريب أو البعيد مؤشر على انخفاضه؟!

منصور الصلبوخ.. أخصائي تغذية وملوثات.



error: المحتوي محمي