يقال إن النَّاس أبناء بيئتهم، فبعدما يفنى جيلٌ قطيفيٌّ يأتي آخر وشيئانِ في القطيفِ باقيان، البحرُ والنَّخلة، إذا ما أردتَ أن تعرف سخاءَ القطيفيِّ تمعَّن كم تحمل النَّخلةُ من أعذق الرطب، من ألوانٍ وأشكال، وإذا ما أردتَ أن تتعرف على لهجةِ القطيفيِّ تبصَّر في نداوةِ البحر وطولِ أمواجه، القطيفيُّ كريمٌ ولهجته طريَّة رخوة، لا تشبه إلا لهجات سكان سواحل البحار!
الآنَ وقد بدأ موسمُ تزيين النَّخيل “أكرموا النَّخلة فإنها عمتكم”، زيَّنا النخيلات وبعد حوالي أربعة أشهر يأتي المولود في عدَّة ألوان، أحمر .. أصفر .. أصفر مخضر وغيرها من الألوان. يوم كنَّا صغارًا كان موسم تأبير النخل يَحفل بالحركةِ والنَّشاط.
والدنا – رحمه الله – يستأجر المزرعة التي فيها أشجار النَّخيلِ بالعشرات، أو المئات، فإذا جاءَ موسم التَّأبير أو التَّلقيح جاءَ معه فريقٌ كامل من الرِّجال الأشدَّاء، كل منهم في نشاط دزينة فهود عندما يرتقون النَّخلة، ثم إذا نشطَ النَّهارُ وحلَّ الضحى انتحوا ناحية للإفطار “الريوق”، وعادةً ما يكون العصيد بالسمنِ البلديّ ولبن البقر، وعلى هذا يأخذونَ أيَّامًا حتى ينتهون من المزرعةِ كلها.
تغير المزيِّن، الآن عامل من بنجلاديش، لكن يا سبحانَ الله، بعدما انتهى من تزيين عرائسنا بدأت السعفاتُ تنحدر مثل ضفائرِ الشَّعر على كتفِ حسناء ترخيه وتحركه الرِّيح، يقرب من الأرضِ تارةً ويرتفع عنها تارةً أخرى!
يهوى أهلُ القطيف النَّخلة، فبعدما انتهى دورها الاقتصاديّ والغذائيّ، صاروا يزرعونها أينما وجدوا مساحة، في فناء دورهم وبساتينهم، مرَّة أخرى تعود النَّخلة حيَّة من بابِ الهوايةِ والرَّغبة، ليبقى أول ما يراه القادم إلى القطيفِ من خارجها النَّخلة والبحر!
يمكنك أن تُخرج القطيفيّ من النَّخلة، لكن ليس لك قدرة أن تُخرج النَّخلةَ من قلبِ القطيفيّ، أحبَّها حبًّا وبادلته به حبًّا أكبر. أكلَ من رطبها في الصَّيف ثُمَّ من تمرها في الشِّتاء، نامَ على حصرها وبنى بيوته من جريدها، فكيف الآن ينساها؟ من المؤكد أن كلَّ تقلباتِ الاقتصاد والعولمة لن تستطيع أن تغير مزاجَ القطيفيّ ولا تميل قلبه عن حبّ النَّخلةِ والبحر!