السيدة زينب (ع) العابدة في وجه المصاعب

في سيرة الحوراء زينب (ع) الدروس المعطاءة والعبر لأصحاب العقول الواعية، فمن خلال استعراض شذرات من جوانب شخصيتها الأخلاقية والإيمانية والعلمية، سنصل إلى نتيجة مفادها أنها (ع) استحقت وسام الكمال والسمو والرفعة الإنسانية بكل ما تعنيه الكلمة من مضامين ومقاصد، فهي الحوراء التي فاقت في صفات كمالها وفضلها نساء زمانها فأشبهت حور الجنان، وهي الخفرة التي حافظت على حجابها وعفتها حتى في أحلك الظروف التي مرت بها في كربلاء وما بعدها، وهي الزاهدة التي لم تغرها ملذات الدنيا ومظاهرها الخداعة، بل كانت المعطاءة للمحتاجين حيث كان بيتها المبارك مقصدًا للفقراء، وشابهت أمها الزهراء في علاقتها بربها والانقطاع إليه، وبرزت السيدة العقيلة في أداء الدور الرسالي كشخصية عظيمة ملؤها الثقة بالله تعالى والإرادة القوية في مواجهة التحديات وتحمل المصاعب والتكيف مع الظروف الصعبة، لقد كانت (ع) شعلة عطاء في جميع أبعاد حياتها بما يجعلها مستحقة مرتبة الاقتداء بها، لما تحمله سيرتها من مفردات تربوية تصقل الشخصية وتنميها وتكسبها كل معاني التكامل والسمو.

من المحطات المهمة في حياتها الشريفة؛ علاقتها بربها وشدة ملازمتها لمحراب الذكر والعبادة، فالسيدة زينب (ع) تجسد معنى الغاية من وجود العالمين وهو العبادة الواعية لله عز وجل، فما يحقق الرفعة والألق للإنسان هو تعلقه بالله عز وجل وإفراد الطاعة له، فهذا ما يورثه الطمأنينة وهدوء النفس والقوة في مواجهة الصعاب بعد أن يفوض أموره لمدبر شؤون العباد، والسيدة زينب (ع) مرت بمصائب جمة كان أصعبها ليلة العاشر من المحرم وهي ترى الجموع قد أحاطت بأخيها الحسين الوحيد مع ثلة قليلة من أصحابه، ولكن الظرف الصعب لم يذهلها ولم يشغلها عن عبادة ربها والالتجاء إليه، فقد قضت ليلتها تلك كما في الرواية عن السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين (ع) بالتهجد: وأما عمتي زينب فإنها لم تزل قائمة في تلك الليلة – أي العاشرة من المحرم – في محرابها، تستغيث إلى ربها. (مثير الأحزان للشيخ شريف الجواهري ص ٥٦).

هذا النص أحد الكواشف عن عظمة السيدة زينب (ع) وصلابتها في مواحهة الصعاب وخوضها غمار الابتلاء، فضبط النفس والاتزان الفكري والوجداني هو أهم مفاتيح التعامل في الحياة ودونه يتخبط المرء في خطواته وتصرفاته ويسير نحو التيه والضياع، والصعوبة لا تكمن في التعامل بهدوء وحكمة في أوقات ينعم فيها المرء بالارتياح وهدوء البال، وإنما التمايز الأكبر بين الناس هو امتلاك زمام أمورهم عند الوقوع تحت تأثير الانفعال أو الاستفزاز أو تعكر المزاج أو موجة الحزن والكآبة، والتي يكون حينها يعاني من تشتت الذهن وعدم القدرة على التركيز في تفكيره ومنطقه ويعجز عن الحراك المحكم الموجه، ولا يعين المرء على امتصاص هول المصائب والمصاعب وتجاوز الدهشة فيتقبل الواقع ويتعامل على أساسه ولا يتأخر عن دراسة المخارج المناسبة كالروحية الإيمانية وشدة التعلق بيد الغيب الإلهية، حيث يتجلى من المرء الصبر ومواجهة التحديات وتوظيف كل قدراته لعبور محطة البلاء والاختبار، والسيدة زينب (ع) جسدت الروح الإيمانية بأعلى درجاتها وهي الفاهمة الفهمة لواقع الحياة وحلقات البلاء فيها وكل ذلك لا يشغلها عن الهدف الأسمى وهو طلب رضا المعبود وعينها تتطلع لمقعدها في المستقر الأخروي، فتعبدها (ع) في ليلة العاشر والتوجه القلبي وشدة التمسك بمحراب العبادة لا يمكن المرور عليه مرور الكرام دون توفية هذه العظيمة حقها وبيان تجليات هذا الموقف منها، إذ لو طبّقنا ذلك على واقع علاقتنا بالله تعالى والتي تضعف كثيرًا ما إن يداهمنا الزمان بإحدى هجماته فننكفئ على أنفسنا ونأخذ زاوية لندب الحظ واجترار الآلام، ويغيب وعينا في صلاتنا فلا نعقل شيئًا من حدودها ومضامينها وكأننا سكارى، فأين نحن من التأسي بعقيلة الطالبيين واتخاذ موقفها عبرة نطبقه في واقع حياتنا، فلنأخذ هذا الدرس الزينبي بقوة ولا نغفل عنه وهو كيفية مواجهة الظروف الصعبة المصاحبة لأي أزمة نمر بها دون أن نفقد اتزاننا ومكتسباتنا، ولنفزع إلى ما يعيننا ويقوي عزيمتنا وليس هناك أعظم من التوجه إلى مسبب الأسباب سبحانه لاستمداد القوة، فالصلاة في وجدان الحوراء زينب ليست مجرد طقوس وفرائض نؤديها لإسقاط التكليف، بل هي مدد نوراني يهذب النفوس ويأخذ بها نحو العلياء والتكامل في جميع أبعاده.



error: المحتوي محمي