هل اللغة العربية الفصحى هي لغتنا الأم الآن أم لا؟.. كان هذا السؤال منطلق الندوة الحوارية التي نظمها منتدى الخط الحضاري بمحافظة القطيف، تحت عنوان “اللغة العربية كائن حي”، وهو عنوان مستوحى من كتاب لجورجي زيدان المتوفي سنة 1914م، وتحدث خلالها الدكتور علي الحوري، وأدارها الدكتور عبد العزيز الحميدي، وذلك تحت رعاية الإعلامي فؤاد بن عبد الواحد نصر الله.
أثار الحوري هذا السؤال الذي ينطوي على حالة “رثائية”، ينعى فيها واقع اللغة العربية في الوقت الحاضر، والذي له علاقة بواقع العرب بشكل عام، فالسؤال يحمل في طيَّاته العديد من المعاني، لكنه قال بأن اللغة العربية سوف تكون لغتنا الأم إذا تم تعلُّمها من الصغر بشكل متقن، ويكون طالبها مؤهلًا لأن يصل إلى درجة تجعل كلامه حجة على اللغة نفسها، وأن يتم الاحتجاج بكلامه على القواعد النحوي، ولكن هذا الأمر لا يتيسر؛ لأن عصر الاحتجاج انتهى في حدود سنة 150 هجرية. فحتى بعض كبار الشعراء مثل المتنبي وأبي نواس والمعري لا يعتبرون من شعراء الاحتجاج، فنحن أولى ألا تكون اللغة العربية لغة أم لنا، ولسنا من أهل احتجاج.
وضمن هذا الصدد قال الحوري بأن تاريخ اللغة العربية يعود إلى الألفية الأولى قبل الميلاد، أي قبل حدود ثلاثة آلاف سنة من الآن، والآثار العلمية تنفي النظرة الشائعة أو المقولة المتعارف عليها عند كثيرين، من أن مصدر اللغة العربية هو اليمن، ثم انتشرت شمالًا، بل تشير أحدث النتائج إلى أن مصدرها المنطقة الشمالية التي تعرف الآن بالأردن وسوريا والعراق، ثم انتشرت جنوبا.
وبحسب شجرة العائلة اللغوية ـ والكلام للدكتور الحوري ـ فاللغة العربية لها أخوات، كاللغة الآرامية التي انحدرت منها اللغة السريانية، وأيضًا اللغة الكنعانية التي انحدرت منها اللغة العربية، وكذلك الفينيقية (التي انقرضت). كما أنْ ظهرت لغات عدة توصف بأنها أبعد نسبًا عن اللغة العربية، مثل الأمهرية، ثم لغات أبعد أيضًا كالأكدية والبابلية والآشورية، وقد انقرضت كلها (على غرار الفينيقية).
ويرى الحوري بأن اندثار بعض هذه اللغات يعود إلى عوامل عدة منها الحروب والصراعات السياسية، وكما يقال: إن التاريخ يكتبه المنتصر، ولن يكتبه بغير لغته. وكل هذه اللغات ترجع إلى جدهم الأكبر، وهي اللغة السامية البدائية، والتي يقدر أنها كانت قبل أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، والعديد من هذه اللغات انقرضت لانهزام أهلها وانقراضهم أيضًا.
وعن اللغة العربية، قال بأنها قد تأثرت بالعديد من العوامل، منها اللغات التي كانت حولها في الفترة الجاهلية (أي فترات ما قبل الرسالة الإسلامية المحمدية)، وكانت تحيطها عدة لهجات عربية تعتبر لغات للقبائل، منها تميم وربيعة ومضر وقيس وهذيل وقضاعة. أما قريش فكانت تختلط بالأمم بسبب السفر للتجارة، كرحلة الشتاء والصيف، إضافة إلى مجيء الحجاج من مختلف المناطق، وبسبب هذا الاختلاط دخلت كلمات ليست من اللغة العربية قبل الإسلام، وجاء بعضها في القرآن، مثل الكلمات الأعجمية: (الإبريق، الطشت، الديباج، الياقوت، البلور، السراويل، القباء، الجورب، زمهرير)، والكلمات العبرية مثل: (الحج، الكاهن). والحبشية مثل: (المشكاة، الهرج، المنبر، النفاق، المصحف). والمصرية مثل: (قبس).
ولم يكتفِ المحاضر بذلك، بل قال: إن عدة كلمات ليست من أصل عربي دخلت على اللغة العربية، منها ما جاء من أصل يوناني، مثل: (الفردوس، الفسطاس، الاصطرلاب، القنطار، الترياق، الدرهم)، وأصل لاتيني مثل: (الدينار، بلاط السلطان). فضلًا عن بعض الكلمات السنسكريتية التي يتحدث بها الهنود، وبحكم العلاقة التجارية مع العرب دخلت على اللغة، مثل: (بهاء، سفينة، مسك، كافور).
وأضاف بأنه وبحكم الالتصاق بين العرب وغيرهم من أصحاب اللغات فإن العرب قد أهملوا بعض الكلمات، واستبدلوها بكلمات مستوردة مثل الخيار الذي كان يسمى القتد، والكوسج الذي يسمي الإثط، والباذنجان الذي كان يسمى الأنب، هذا عدا أن بعض الكلمات وقع لها تطور دلالي فتغير معناها مع الزمن. فكلمة “كتب” كان معناها حفر في الحجر أو الخشب، و”اللحم” كان معناه الطعام بشكل عام في اللغات السامية، و”عنب” كان معناه الثمر بشكل عام، و”طبخ” كان معناه ذب،. و”الشاطر” كان معناه من أعيا أهله ومؤدبه خبثًا ومكرًا، وهو مأخوذ من شطر عنهم إذا نزح مراغمًا، ولكن هذه اللفظة الآن تستعمل للمدح. ولأن اللغة العربية كانت لغة تملك القدرة على التفاعل مع معطيات العصر استوعبت جملة من الألفاظ العلمية والتي منها: الرياضيات (المربع والمثلث والمخروط)، الفلسفة وعلم الكلام: (السالك والقطب)، والتراكيب اليونانية: (ال التعريف مع لا النافية اللانهائية)، الاسم من حرف أو ضمير (كيفية، كمية)، الوصف إلى اسم (مائية).
وأوضح أنه دخلت على اللغة العربية كلمات حديثة: من اللغة الفرنسة مثل: سكرتير (كاتم السر)، برلمان (مجلس الأعيان). والإيطالية مثل: كمبيالة (حوالة)، بورصة (تجارة)، وبعض أسماء التخصصات العلمية، مثل: (الجيولوجيا، الميكانيكا)، والمصطلحات الكيماوية (الكلوريد، الهيدروكلوريك، الكربونات)، والأجهزة الحديثة:(البطارية، التلسكوب، الميكروسكوب، التلغراف).
وفوق كل هذا يؤكد الحوري بأن اللغة العربية الفصحى لم تصلنا كاملة أصلًا، بناء على قول ابن فارس: “إن لغة العرب لم تنته إلينا بكليتها، وإن الذي جاءنا من العرب قليل من كثير”. وقول السيوطي: “ومع كثرة ما في القاموس من النوادر والشوارد، فقد فاته أشياء”.
وبعد هذا التفصيل خلص المحاضر إلى القول بأن لغتنا الأم ليست اللغة العربية الفصحى، بل هي اللهجة المحلية، لافتًا إلى وجود جدل قائم حول ما إذا كان ينبغي الاعتناء باللهجات المحلية مثلًا بإنشاء معاجم لها وتدوينها، بل وإنشاء صحف بها، فالبعض يعتبر اللهجات مجرد تشويه للغة الفصحى ولا ينبغي الالتفات إليه. ولكن هذا الكلام غير علمي، فحتى لو أنشأنا بيئة ينشأ فيها الأطفال يتكلمون باللغة العربية الفصحى تحت إشراف خبراء، حتى هذه اللغة ستتغير وتطور مع الزمن وتتفرع منها لهجات جيلًا بعد جيل؛ لأن التغير هو سنة الحياة.
وختم المحاضرة بقول لجورجي زيدان:”…لا ينبغي لنا احتقار كل لفظ لم ينطق به أهل البادية منذ بضعة عشر قرنًا؛ لأن لغة البراري والخيام لا تصلح للمدن والقصور، إلا إذا ألبسناها لباس المدن، فلا بأس من استعمال الألفاظ المولدة التي لا يقوم مقامها لفظ جاهلي؛ لأن معناها لم يكن معروفًا في الجاهلية أو التي كان لها لفظ وترك فأصبح غريبًا مهجورًا، فاستعمال اللفظ المولد خير من إحياء اللفظ الميت، واستبقاء المولود الجديد أولى من إحياء الميت القديم”.
وعلى الرغم من الانطباع السائد بأن اللغة العربية لغة جافة إلا أن الندوة شهدت حضورًا نوعيًّا، أسفر عن جملة من المداخلات والتساؤلات حول هموم اللغة العربية، وكان أبرز المتداخلين: د. سامي السلطان، د. عبد العزيز فهاد الشمري، د. محمد الشخص، د. علي الحداد، علوي الخباز، م. علي السلطان، منصور الفرج، فوزي الدهان.
في الختام تم تكريم المحاضر ومدير اللقاء بدرع وشهادة شكر وتقدير من المنتدى قدَّمهما كل من د. علي الحداد، ود. عبد العزيز فهاد الشمري وراعي المنتدى فؤاد نصر الله.