الشعر عمارة نص وثقافة فن أبدية

الشاعر خالق الجمال بفطرته. الشعر سارق اللهب من النار. ينفخ فيه الخيال من جديد، ويبتكر للضوء حكاية العدم المراوغة، يصنع من اللاشيء أراجيح الفرح، ليجفف العتمة عن تضاريس الأمل.

يتوشح الشاعر بأنوية الأرض، ليحرث فيها ثقافة الإنسان الممتدة جمالًا متجذرًا يتناسخ عبر ألحانه الأبدية، وأغانيه المنقوشة على صفحات الألق.

الشاعر نصٌ خارج القصيدة وداخل أسوار الشعر. باحث يمتطي الخيال، وفي جيبه بدعة المجاز، يطارد بها المجهول الجمالي والشعر. الشاعر بكل تصنيفات وتجنيساته “هو من يفاجئه شعرُهُ فهو نتاج مشاهدات حياتية واقعية ربما تسجلها الروح لتنشئها نصًا، وربما تهرب منه فتقع في خطر التلاشي” (رقية آل فريد – بمسحون على سعر العالم).

والشاعر كما يقول العراقي عدنان الصايغ: “يعيد تشكيل الأمكنة التي يزورها والأشخاص الذين يلتقيهم والكتب التي يقرأها، والأحداث التي تمر به أو يمر بها وغير ذلك. فيفكك منظوماتها المعرفية والرؤية والفكرة، مثيرًا للأسئلة ومشتشرفًا للآفاق”.(نفس المصدر السابق).

أما لماذا يكتب الشاعر وما الغاية من الكتابة الشعرية والإبداعية فتجيبنا الشاعرة بثينة اليتيم قائلة: “الكتابة استدراج لحضورنا الإنساني أن تكتب يعني أن تكون الغريزة في قلبك والإبرة في عقلك. الكتابة ضجيجٌ، توهج لحضورنا الخافت رغم المرئي لما لا يرى ببصيرة الشعر وحدها”. (المصدر السابق).

إذن نحن مدعوون لقراءة الإبداع بكل ما أوتينا من بصيرة نافذة ورؤية ثاقبة، لنصنع منه مرايا معبأة بصناعة الضوء
نحتاج إلى أن نعطي الشاعر صوته الحقيقي عبر قراءاتنا الجادة والمعمقة والكاشفة والتي تحول المتلقي البسيط إلى صيغة تحليلية مبتكرة، لنجعل من الشاعر متكاثرًا فينا متناسخًا بنا، لكي لا يبقى على سطح الكلام وإنما يغوص في أعماق اللغة والإعجاز يقول الشاعر الكبير جاسم الصحيح في ديوانه (قريب من البحر.. بعيد عن الزرقة):

والشعر منذ الشعر لم ينبت على
سطح الكلام وإنما في قعرهِ
الشعر سكين وليس بشاعر
مَنْ لم تجرِّحْه كتابة شعرهِ

تدعونا هذه الرؤية إلى البحث عن جزر الإعجاز الفني وعدم الاكتفاء بالوقوف على شطآن اللغة ومرافئ البديع والزخرفة الشكلية
وجدير بنا ونحن نحتفي بحفل توقيع ديوان. (ألون صوت المجاز) للشاعرة زهراء عبد الله الشوكان أن نستفز الذاكرة الشعرية لهذه الأرض الأسطورة العريقة مرورًا بقراءة المشهد الحضاري للإغريق وعصر الفينيق حيث ريادة الوعي لإنسان هذه المنطقة في ابتكار الحروف وصناعة الكتابة وامتداد براعة العقل البشري على هذه البقعة الرائدة مرورًا بقبائل عبد القيس والتي عجب منها الكاتب الشهير الجاحظ. معلنًا أنها أصبحت من أشعر قبائل العرب حين سكنت هذه المنطقة ولم تكن كذلك حين كانت تقطن في البادية معدن الفصاحة. وما ذاك إلا لأن الأرض بركتها بسحرها الفاتن، ورشحاتها الروحانية.

ومازال التاريخ يحتفظ في ذاكرته بزيارة الكاتبة والأديبة المصرية عائشة بنت عبد الرحمن “بنت الشاطئ” للقطيف وذلك عام 137‪0هـ-1951م برفقة وفد من جامعة الملك فؤاد، فقد وقّعت إعجابها عندما وجدت نفسها في أمسية أدبية في أحد بساتين القطيف، موجهة خطابها إلى أدباء مصر بعد زيارتها قائلة: “على مثل هذا كان يدور السّمر في أمسيتنا تلك ببستان الأخ عبدالله إخوان في القطيف، والآن وقد رجعت إلى مصر، أرى حقًا عليّ أن أنقل إلى قومي بعض أصداء ذلك المجلس الأدبي ليعلموا أنّ على ساحل الخليج في أقصى الشرق من جزيرة العرب علماء مجتهدين، وأدباء موهوبين، كم تألمتُ، وأنا أصغي إلى حديث أدباء القطيف عن معاركنا النقدية ومذاهبنا الفنية”. (قالوا القطيف – سعود الفرج. 17).

وحريٌّ بنا أن نوقّع بصمة اعتزاز لعصرنا هذا ونحن نشهد حراكًا شعريًا ملحوظًا للشاعرات القطيفيات وهنّ يوقّعنَ حضورهنّ اللافت بكل رفعةٍ وسموٍّ فقد احتفت القطيف بديوان “حزنائيل” للشاعرة فاطمة الدبيس، وها هي اليوم تزغرد لديوان “ألوّن صوت المجاز” لشاعرتنا زهراء الشوكان. كما أنها ستحتفي قريبًا بديوان الأستاذة الأديبة أمل الفرج.



error: المحتوي محمي