لحظة وداع أمي

في اللحظة التي ودعتها فيها استذكرت سلسلة ذكريات 17 عامًا، منذ أول عناق إلى آخر قبلة، كل ذكرياتها حاضرة، لم أكن أعرفها قبل أن تخبرني بأنني ابنتها، لم أقابلها في مجلس، ولم ألتقي بها في مكان، كان أول لقاء حين اختارتني لأكون ابنتها الثالثة.

أقبلت بوجهها البشوش وبعاطفتها الجياشة التي تعبر عنها على سجيتها، دخلت منزلها صغيرة لم أتجاوز 18 عامًا، وكنت أخشى أن يثقُل وجودي عليها، وهي خادمة الحسين التي لا تترك مجلسًا إلا وتحضره، ولا تترك مناسبة إلا وتقيمها في مجلسها.

ولكنها رغم كثرة علاقاتها الاجتماعية التي لا تقطعها، ورغم كبر سنها كانت أم الجميع، تساعد وتشارك وتربي، تزور أرحامها، وتتواصل يوميًّا مع رفيقاتها، وتقطع الحي ذهابًا وإيابًا وحدها، بل وتقطع الأحياء على قدميها من غرب الجميمة إلى حي كربلاء، لتزور أمها ” رحمهم الله جميعًا”، لم تقطع أحدًا من محبيها إلا خلال العامين الأخيرين بسبب كورونا، هذا الوباء الذي قتل الروح بالبعد، وأثقل الجسد بالشوق.

كنت أراها تذبل وهي تنتظر أن تعود الحياة كما كانت، تنتظر العودة إلى مجالس القراءة، وتشتاق بحرقة في كل محرم للحضور، حتى أخذت نفسها ذات يوم بجسدها النحيل وبقواها التي أضعفها الجلوس الطويل غير المعتاد في البيت، وخرجت دون مساعدة من أحد لتحضر المجالس التي اعتادت حضورها، ولكن خوفنا عليها من الإصابة بكورونا دفعنا إلى محاصرتها وإجبارها على الجلوس.

ذاك المقعد الذي لم تفارقه لعامين أخذ كل قوتها، وسرق الفرحة التي نراها في عينيها، وأطفأ الأحاديث والذكريات والأهازيج التي كانت تسلينا وتسليها في كل لقاء، كانت تسترق عناق الأطفال وهم يبتعدون خوفًا عليها من العدوى، كانت تنتظر قبلاتهم التي أصبحت تأتيها عبر رسائل بالهواء.

لم تشعر بتلك القبلات البعيدة، وهي الحنونة التي تحيينا بالعناق والقبلات، كنت أرى الذبول والانكسار في عينيها وأنا عاجزة عن جبره، وعندما بدأت تتقبل منعها من “القدو” بكل سهولة بعد أن تقبلت منعها من كل محبيها بسبب كورونا، كانت لحظات القبول تلك هي لحظات استسلامها للوداع.



error: المحتوي محمي