لماذا تتعانق ثيمتا “الحب والحرب” لدى جاسم الصحيح، فلا تأتيان إلا متصاحبتين، وكأنَّ ثمة تلازُمًا بينهما؛ إذ حضور الحب رهنٌ بحضور الحرب، وغياب الحب رهنٌ بغياب الحرب؟ فما سرُّ اجتماعهما حضورًا وغيابًا داخل القصيدة؟ وكيف يمكن قراءتهما؟ وهل تشكلان مدخلًا لفهم بقية أشعاره؟
إجابات الأسئلة ستتم عبر مقاربة تحليلية لقصيدتين، من ديوان “تضاريس الهذيان”؛ الأولى: قصيدة “احتفاليَّة الحب والحياة”، حيث الاحتفاء بالحب والوجود. الثانية: قصيدة “للحرب موسمها المماطل”، التي تقارب الحرب كنوع من أنواع الوجع الروحي الذي لا يهدأ، فمن خلالهما يمكن اكتشاف الآفاق الدلالية المختبئة، وعلى الخصوص ثنائية “الحب / الحرب”، أو “الحضور / الغياب”.
قصيدة “احتفالية الحب والحياة”: يُفاجئ الشاعرُ المتلقي، منذ البيت الافتتاحي، بما هو غير متوقع؛ من أجل استمالته، وشدِّه؛ لإكمال الاستماع، والدخول في اللعبة اللغوية، التي نسجها عبر أسلوب السرد الحكائي الذاتي، المعتمد على المصادفة اللامتوقعة:
“وأصابني ما ليس في حسباني:
أنثى بطعم بشائرِ (الرحمنِ)
كان اللقاءُ بها مجرَّد قهوةٍ..
والحبُّ قد يأتي من الفنجانِ!”
حينما يمسك الشاعرُ بالمتلقي، وهو مصغٍ بإنصاتٍ وتركيزٍ؛ يطمئن لنجاح خطَّته، فيبدأ عندها في الإدلاء باعترافه: “أحببت من جذري إلى أغصاني”، سيستغرق كامل القصيدة، ويصبح البؤرة الدلالية؛ إذ سيتكرر “أحببت” في جميع المقاطع، فماذا أحب الشاعر؟ ولماذا اندفع نحو الاعتراف بحبِّه؟
القصيدة تجيب على الأسئلة، عبر العمل على توسيع دلالة لفظ “الحب”؛ ليشمل كلَّ شيء، بدءًا من الديانة، ووصولًا إلى الجغرافيا، وانتهاءً باللغة، وهي الأمور التي تحدد هُوية الإنسان، وانتمائه:
“أحببت يا شيخَ الطريقة.. فانصرف
عنِّي لأبلغ وحدة الأديانِ
أحببت يا ساعي البريد.. ألا ترى
كلَّ المجرَّة أصبحت عنواني؟!
أحببت يا صوت المؤذِّن، فالهوى
صوتي، و(حيِّ على العناقِ) أذانِي!”
الذات الشاعرة أحبتِ الإنسانيَّة؛ فاتَّحدت بها، وبالكون، وبجميع الأشياء، لذا يأتي اعترافها بالحب، من بوابة الكشف عمَّا يشكِّل هُوية الإنسان الوجودية؛ إذ من دونها لا يعود هنالك معنى للحياة: “أحببت كي أحيا”، حيث “الحبُّ ما يصل القلوب ببعضها”، ولا ضير إن وقعت خصومات فـ”في الحبِّ قد يتحالف الضِّدَّانِ!”.
فمشاكل الإنسانيَّة علاجها الحبُّ، فوحده قادر على استرجاع “إنسانية الإنسانِ”، التي تتيح إمكانية رؤية الفرد لحقيقته الداخلية، وهو ما حدث مع ذات الشاعر؛ حيث شاهدت “نورًا يضيء حقيقتها”، وهنا أدركت سبب حبِّها:
“أحببتُ كي أحيا الحياةَ، وأبتني
ضدَّ الخرابِ حصانةَ الوجدانِ”.
الحبُّ “حصانة” الإنسانية “ضدَّ الخراب”، نهاية استنتجتها الذات بعد مشاهدة الإشراقات النورانية، التي أضاءت حقيقتها الداخلية، فكشفت ما بها من جمال، لهذا ستتجدد دعوتها للإنسانية في ختام القصيدة؛ لتتمسك بما لديها من حبٍّ، فهو وحده مَن سيحميها من الحرب والدمار والفناء، كما حمى الأرض قبلًا، وطهَّرها “من كلِّ ما حملت من الأدرانِ”:
“والحب كان (الفُلك)..
كان جميعَ (مَن ركبوا)..
وكان حقيقةَ (الطوفانِ)!”
الحبُّ في قصائد الشاعر جاسم الصحيح، ليس مجرد عاطفة إنسانية، استحوذت مشاعره، وملأت جوانب روحه تجاه شخصيَّة محددة أو جماعة معيَّنة، بل هي ديانة يدين بها، وينتمي إليها، وينطلق منها، داعيًا إلى إحلال السلام وتفادي الحرب، وبهذا يتجاوز أفق الشعر، إلى أفق الفلسفة الأخلاقية، حيث تمجيدُ قيم التسامح، والمحبة، والواجب.
قصيدة “للحرب موسمها المماطل”:
اعتمد الشاعر في بناء قصيدته على تقنية التكرار، وهي ذات التقنية الكتابية المستعملة في قصيدة “احتفاليَّة الحبِّ والحياة”، ما يُعتبر مؤشرًا على تلاحم وتمازج القصيدتين، ففي المقطع الأول تكرر لفظ “والحرب”، أمَّا المقطع الثاني؛ فتكرر لفظ “عذرًا”، بينما المقطع الثالث؛ أضمر لفظ “تحيَّةً” السابق على المطالع، وكذلك فعل مع المقطع الرابع؛ إذ أضمر عبارة “تمضي المواسم”، قبل أن يعود في المقطع الخامس، ليصرح بالمطلع “لا بدَّ من شعرٍ”، وبعدها ختام القصيدة بذات البيت الافتتاحي، مع وجود تبديلات غير مؤثرة على مستوى الدلالة العامة.
ففي المقطع الأول حديثٌ عن الحرب وآثارها، والتي لا تُفرِّق بين “السنابلِ والقنابل”، وهو ما يعيد إلى أذهان المتلقين ثنائية “الحضور / الغياب”، إذ ثمَّة تلازم واستدعاء متبادل، بين الحبِّ والحرب:
“الحربُ حين تجيءُ
تمحو الفرقَ ما بينَ السنابلِ والقنابل
والحربُ حين تسيءُ
تختطف البنفسجَ من حقول الوردِ
تختطفُ الوضوءَ من الجداول
والحرب حين تضيءُ
تطفئُ
شعلة الأحلامِ في دمِنَا
وأحلامَ المشاعل”.
تفتتح القصيدة أبياتها بالحديث عن العدمية، والمحو، والإلغاء؛ إذ لا فرق في الحرب بين “السنابل والقنابل”، وكأن الوجودَ إضافيٌّ وطارئٌ بالنسبة للإنسان، بينما في حقيقة الأمر؛ الوجودُ أصلٌ وأساس، والعدميَّة هي الطارئة، ولهذا بعد الانتهاء من الحديث عن المحو والغياب لمظاهر الحياة المختلفة، كـ: “حقول الورد – الوضوء – الجداول – الأحلام”، بادرت القصيدة لتقديم اعتذارٍ، بسبب ما تحمله داخلها من شعورٍ بالواجب الأخلاقي تجاه الإنسانيَّة:
“والحرب حين تفيءُ
تحتاجُ اعتذارًا باتِّساع (البحرِ)
علَّ خطيئةَ (الحيتانِ) تغفرها (السواحل)”.
ما أسباب الحرب؟ ومن يقف وراءها؟ ولماذا هي مستمرة؟ أسئلة تتوالد، ولا إجابة شافية، لهذا تُعتبر “الحرب أحجية”، لا بدَّ من فكِّ ألغازها، وهو ما يدفع القصيدة إلى البحث أكثر، لتصل إلى نتيجة مؤلمة مفادها؛ “الحرب عاكفةٌ” بين البشر، ودواؤها الناجع يتمثل في “الشعر”:
“لا بدَّ من شعرٍ إذن،
إنا لقصائد في ضمير الكونِ
شريانٌ من البشر المناضل
لا بدَّ من شعرٍ
يهيِّئُ للطيور هناكَ
أعشاشًا على شجرِ التفاؤل
لا بدَّ من شعرٍ
يُعيد مسيرة المعنى لسكَّتها القديمة
بعدما انقلبَ الطريقُ
فأصبحت فيهِ (الكلابُ تسيرُ) واثقةً
و(تنبحها القوافل)”.
حين يحضر الشعر تحضر الحياة، والحبُّ، بل كاملُ الوجود؛ لأن الشعرَ أصلُ الكون، وسببُ وجود الإنسان؛ إذ يمنحه التفاؤل، ويدلُّه على الطريق الذي ينبغي أن يسلكه إذا انحرفت قافلة الإنسانيَّة عن مسارها، مثلما حدث زمن الطوفان:
“والأرضُ في (الطوفانِ)… عاشرةً!!
وقد غَرِقت خرائطنا
وحاق بفُلكنا المشحونِ (جوديٌّ) مخاتِل”.
استدعاء الطوفان، وتوظيفه داخل القصيدة الراهنة، تقاطع مع القصيدة “احتفاليَّة الحبِّ والحياة”، التي رأت “الحب” حقيقة الطوفان، وحقيقة الإنسانيَّة، أمَّا هنا، فالإنسانيَّة ما زالت تبحث عن خلاصها من الطوفان المتحفز لتدميرها، لهذا استحضرت جبل الـ”جودي”؛ الذي رست فوقه سفينة نوح؛ ليكون عامل استقرار، ونجاة.
حضرت الحرب في القصيدة، فحضر معها الحب؛ لأجل محو ما علق بالإنسانيَّة من أوجاعٍ ومآسٍ، وبهذا انطلقت إلى فضاء أرحب، من مجرد التعبير عن الحرب وويلاتها؛ حيث اندفعت إلى الإعلاء من قيمة التسامح، والمحبة، مع الالتزام بواجب تجاه الإنسانية جمعاء، وهو ما يشير إلى تجاوز الأفق الشعري، إلى أفق الفلسفة الأخلاقية.