رواية (شيخة) تسلط الضوء على أحداث وشخصيات شرق العربية السعودية
اكتشفت ان شعر الشاعر لا يعبر الا عن 10% من فكره أما 90% الباقية فلا تقال الا نثرا .
نزار قباني ص 14 (الكتابة عمل انقلابي 1978م)
تذكرتكم والجسم ملقى بلبنان
وقلبي في شوق إليكم وتحنان
علي أبو السعود 4/ 1373هج
الرواية التي بين أيدينا المعنونة باسم ( شيخة ) كتبها الأديب المرحوم علي حسن أبو السعود في العام 1373 هج ، وهو طريح السرير الأبيض في مستشفى ظهر الباشق في جبل لبنان ،غير أن الرواية لم تر النور الاّ في العام 1435هج ( 2014م).
وقعت الرواية في حدود 250 صفحة من القطع الوسط ، وجاءت محتوية على تسعة فصول ، ومقدمتين أحدهما للكاتب ، والأخرى للمراجع السيد عدنان العوامي، إضافة الى ملحق هو عبارة عن دليل إرشادي باللغة والنصوص والأماكن الواردة في الرواية.
(شيخة) رواية غرامية تاريخية على ضفاف الخليج ؛ هكذا كتب في عنوان غلاف الرواية ، لتشير لنا الى خط مسيرة موضوعها ، وقد تضمنت إضافة الى بطلي الرواية سليمان بن مانع وعشيقته شيخة(هناك مسيرة أحداث تشترك في رسمها) مجموعة من الشخصيات الحقيقية والخيالية .
يتجاذب سليمان خطان من العشق لا ينفصلأحدهما عن الآخر ، بل أن كل عشق يتقاطع مع العشق الآخر، ويتداخل معه ، فعشق لشيخة ينمو ويتلاطم داخل صدره ، وعشق آخر للقطيف وسيهات وأهليهما .
أستميح القارئ عذرا ( وقبل الغوص في معطيات الرواية)في أن انوه بالمقدمة التاريخية الجميلة ، التي كتبها الباحث والأديب السيد عدنان العوامي في المقدمة ، والتي جاءت متناسبة مع موضوع الرواية ،
السيد عدنان العوامي سبق وأن قدم لنا كتاباًجميلاً عن حياة الوجيه والزعيم علي حسن أبو السعود بعنوان ( زعيم في ذاكرة الوطن 2010م)، وهاهو اليوم يخرج لنا هذا العمل الأدبي الجميل وهو رواية شيخة.
في نهاية الفترة الثانية من عهد الأمير تركي بن عبد الله ابن محمد بن سعود ( 1249هـ)بداية عهد إبنه الأمير فيصل الذي تولى الحكم بعده .
في هذه الفترة عاشت القطيف مرارة صراع دام نشب بين زعماء القطيف وأعيانها ، فالرواية تتناول تلك الأحداث بصورة تختلف جوهرياً عما ترويه كتب التاريخ التقليدية .
وهنا يورد لنا السيد عدنان ثلاث روايات عما حدث ، وأذكى حدة الصراع ابتداءً من مهاجمة آل خليفة (حكام البحرين) القطيف في سنة 1249هـ، واحتلالهم بلدة دارين ، وتوغلهم في جزيرة تاروت ، وانتهاءً بمقتل عبد الله بن غانم حاكم القطيف في ذلك الوقت.
1/ فأورد أولاً ماكتبه الأستاذ محمد سعيد المسلم صاحب كتاب (ساحل الذهب الأسود)عن هذه الحادثة.
2/ ثانياً ماكتبه الأستاذ الشاعر محمد سعيد الشيخ علي الخنيزي ، صاحب كتاب (خيوط من الشمس )عن الحادثة.
3/ ثالثاً ماكتبه المؤرخ الشيخ عثمان بن بشر المعاصر للأحداث ، وصاحب كتاب ( عنوان المجد في تاريخ نجد)عن هذه الحادثة.
والرواية (شيخه)تأتي بتفاصيل أكثرّ دقةًوتفصيلاً لهذا الحدث ، ويعتقد السيد عدنان العوامي أن الروائي علي أبو السعود كان مضطلعاًعلى الكثير من المصادر المعاصرة ( في وقته) وغيرها الأمر الذي مكّنهُ من الإلمام بأحداث غابرة لم يدونها أحدٌ من معاصريها على هذه الصورة .
مقدمة السيد عدنان العوامي صـ 10- 11 الرواية .
سليمان بن مانع كما ترسمه الرواية ، رجلُ من وجهاءَ منطقة القطيف ، كان رعديداً لكن الحب بنوعيه أعطاهُ قوةً وحولهُ الى رجل شجاع.
وحبيبة قلبه شيخة سيدةُ من سيدات المجتمع القطيفي ، تزوجت وانفصلت عن زوجها ، أو إنها ترملت … المهم أنها أصبحتْ وحيدة ، ويشاءُ القدرْأن تلتقي بسليمان بن مانع في مدخل حمام أبو لوزه التراثي الشهير ، وتشتعل شرارة الحب بين قلبيهما.
ولأن شيخة –كما يبدو– من مسيرة الأحداث أنها جميلةُ وغنيةُ ، خصوصاً وأن أباها كان من أغنياء البلد ووجهائها، الأمر الذي أبرز منافسين لسليمان بن مانع ، لنيل يد وحب شيخة ، وإن كانوا من أقاربهِ المقربين .
ففي الوقت الذّي يهيم فيه سليمان بن مانع بشيخةٍ ، وينتظر من ابن عمه ناصراً أن يساعدهُفي خطبتها ، يسير ناصر الى شيخة ليعرض عليها شخصية حسين أبو حيان قريب سليمان بن مانع ، ومنافسه في الزعامة ، وتحيط الشكوك بحسين هذا في التجسس ، ونقل أخبار التحركات في منطقة القطيف الى المنافسين في خارجها.
ويجّن جنون سليمان ، ويصعق ويقطع عطلته الاستجمامية في جزيرة تاروت ، ويقفل راجعاًلمواجهة التحديات التي تنتظره .
تتالى الأحداث وتتشابك وتتعقد ، فمن طلاق أخت شيخة ، ومرضها ، الى احتدام الوضع بين قبيلة العماير ومن خلفها آل خليفة الذين كانوا يسيطرون على قلعة الدمام ، فقد هاجمت قبيلة العماير بعض الحاميات في الجيش السعودي ، ولجأت الى سيهات الأمر الذي جعل فيصل بن تركي يضرب حصاراً قوياً على سيهات .
وهنا حسبت سيهات بأن ذلك إنما تم بتحريض من أبناء عمومتهم في القطيف، لكن الأحداث سارت باتجاه آخر ، حيث أن فيصل بن تركي سمع عن مقتل أبيه وهو يحاصر سيهات ، فترك حصارها،وأقفل راجعاً الى الرياض ومعه عبد الله بن غانم ، وعندما رجع ابن غانم سراً ، وجد مجموعة من مقاتلي علي عبد الرحيم النصر في انتظاره ، اقتادوه الى سيهات.. وبالقرب من سيهات وقعت واقعة غريبة ، ومواجهة غير متوقعة ، قتل على اثرها عبد الله بن غانم ، على يد مجموعة من الملثمين( لم يعرف وقتها لمن يتبع هؤلاء الملثمين ).زاد ذلك من شقة البعد ، والصراع بين قيادات المنطقتين ، الرواية تناقش كل ذلك بالتفاصيل .
وهنا يحق لنا التساؤل عن الدلالة الاجتماعيةالرابطة بين الكاتب وكتابته ، ولماذا هذا الإصرار على نسج هذه الرواية في ذلك الوقت وهو يعاني ما يعانيه من آثار المرض الذي أبعده عن بلاده ، وتركه طريح الفراش في مستشفى ظهر الباشق بجبل لبنان .
قد يكون الكاتب شعر في داخله بضرورة إيصال رسالة مهمة للأجيال عما احتدم من صراع الأشقاء بين سيهات والقطيف.( وفعلا لم تطبع الرواية الا بعد رحيله كما ذكرنا سابقاً)
فالفرق بين انجاز الرواية 3/ 7/ 1373هج ، ووفاته التي كانت في تاريخ18/3/ 1374هج ، لا تتخطىثمانية أشهر.. ثمة دلالة أخرى يمكن استنتاجها هنا ، وهي أن المرحوم أبو السعود ذهب الى لبنان ، وهموم البلاد لا تبارحه ، وقد عبر عن هذه المشاعر شعراّ عندما قال :
تذكرتكم والجسم ملقى بلبنان
وقلبي في شوق اليكم وتحنان
صـ152- ( زعيم في ذاكرة الوطن- 2010م)
الناس أمام الأحداث منقسمون ( هكذا خلقهم الله)فمنهم خائف رعديد ، ومنهم شجاع ووفي لا تزحزحه الأحداث ،من جهة أخرى قد تقسمالإغراءات المادية الى ضعيف وقوي ، فبينما يتلون بعض الناس ويبلعون مواعيدهم ومواقفهم ، ويقف أناس آخرون أقوياء أشداء في مقاومةالاغراءات المادية.
الرواية تطرح نوعين او أكثر من هذه النماذج كأمر طبيعي في المجتمعات ، فشخصية حسين أبوحيان يرسم لها في الرواية ، أنها شخصية انتهازية ، تستخدم الخدع والمكر والإغراء المالي ، ليس بالضرورة من أجل الوطن أو الجماعة ، انما قد يستخدم كل هذا الدهاء من أجل الوصول الى منصب ، او الاستفراد بصفقة تجارية ، او الحصول على زوجة…. كل الأهداف يمكن تحقيقها بالإغراءات المادية.
من أجل ذلك عندما بعث بناصرٍ للتأثير على شيخة للقبول به مكان ابن عمه سليمان بن مانع ، وحمله مجموعة من الهدايا ، وعندما وجده مدهوشاً ومستغرباً من هذه الهدايا قال له:
( أنت معذور ، لأنك لم يسبق لك أن جربت المال في أغراضك ومآربك ، سلني أنا ، فأنا الذي أعرف كم سخرت به نفوس يصعب تسخيرها ، وابتيعت به ضمائر يعز ابتياعها، فهل تذكر قضية أهل سيهات ؟ لولا ما بذلت فيها للأمير ولخدامه لكنت سمعت بالشيخ يوسف).
صـ39-40 الرواية.
وتتالى الأحداث التي ترسمها الرواية ، لتوضح لنا كيف أن أصحاب ( المال، السلطة ، النفوذ) ، يؤثرون في مسيرة الأحداث الى درجة قلبها رأساً على عقب، وهو الأمر الذي حصل لحاكم القطيف في ذلك الوقت ( عبد الله الغانم )، عندما عرف أمره في الليلة التي دخل فيها القطيف متخفيا .
حضر بعدها رجالات علي عبد الرحيم ( حاكم سيهات)يطلبونه ، من الذي أخبرهم بوجوده؟
هم الناس الذين نصبوا أنفسهم مخبرين.. أو أنهم راهنوا وعولوا على زيادة تفاقم الأوضاع في القطيف، وانهيارها الى الأسوء .
ويلعب هنا الشيخ علي أبو السعود دوراً مميزاً،فلقد قصد الشيخ علي أبو السعود في الأساس لمحاولة عقد الصلح بين عبد الله بن غانم ، وبين علي عبد الرحيم.
تقول الرواية أن الشيخ علي أبو السعود حضر الى الجنود الذين قبضوا على عبد الله الغانم ، وأخذ منهم مواثيقاً مغلظةً بعدم مس الرجل بسوء حتى يصل الى سيهات سالما.
ويبدو أن هؤلاء الجنود وفوا بكلامهم ، وامتثلواكلام الشيخ أبو السعود لهم .
لكن المؤامرات التي كانت تعصف بسيهات والقطيف ( في ذلك الوقت ) أكبر من أن يحوطها الرجلان ، وتسرد الرواية تفاصيل كثيرة حول مقتل ابن غانم لامجال هنا لسردها.
السؤال الأهم ..يبدو ان مثل شخصية حسين أبو حيان لا تقتصر على ذلك الزمان ، بل يمكنها أن تتكرر في كل زمان ، وفي كل مجتمع ، ومثل هذه الشخصيات المتخاذلة ، الخائرة تسبب جروحاً كبيرةً في العمل الوطني والاجتماعي ..وكأن الزمان يعيد ويكرر نفسه ببلادة.
وهو الأمر الذي حدث مع شخصية الكاتب ( علي حسن أبو السعود) في حياته ، وفي زمن يختلف عن زمن الرواية.
ففي قصة مفصلة جاء (حسب المرحومالسيد حسن باقر العوامي ) ( تعرضت في فترة من الفترات الصكوك الصادرة من قضاة الشيعة( في القطيف )الى عدم النفاذ ، وعدم الاعتبار فكتب واحدُ من أهل العلم برقيةً إلى الملك مضمونها : الفوضى سائدة بسبب كسر الأحكام ، فكانت باعث ازعاجٍ شديدٍ ،ماهي هذه الفوضى في الأمن أم غيره؟
وأمرت الدولة بتشكيل لجنة من مسؤولين أشداء للتحقيق في ذلك ، وما أن علم الموقعون فيها حتى انهزم بعضهم ، فمنهم من ادعى المرض ، ومنهم من ذهب إلى الظهران ، ومنهم من ادعى أن علياً غرر به ، بينما الحقيقة أن علياًما هو الاّ أحد الموقعين ، لكنه تحمل كل المسؤولية ، وواجه ، هو ومن بقي معه من الموقعين ، الهيئة بكل قوةٍ وبسالة )
سيد حسن العوامي ( علي وزمانه ووطنه ) صـ21 ( زعيم في ذاكرة الوطن – 2010م)
عندما يتذكر علي أبو السعود هذه الحادثةيؤرخها شعراً حزيناً فيقول :
بعهود ومواثيق ضمنوها
أقسموا لي سيثبتون كراماً
ثم قالوا مقالة زخرفوها
لا نبالي نفدي حياتك بالرو
ح(عليا)وليتنا نفديــــــــــــها
حادثات مريـــــــــــــــــــعة فعلوها
حينما ضحضح الضّيا أنكروها)
صـ 155-156( زعيم في ذاكرة الوطن –2010م)
وهكذا تتكرر تقسيمة الله للبشر المختلفين في المزاج والأطباع.
القيم .. الأعراف ..
من المفيد حقا أن تنقلك الرواية الى الأجواء الاجتماعية التي كان يعيشها المجتمع في القطيف ، وسيهات وبقية المناطق القطيفية ، وماهي مدى قوة وتحكم القيم والأعراف والتقاليد بالمجتمع .
أدخلتنا الرواية في دهاليز المجتمع القطيفي وبعض القيم والأعراف المتمسك بها ،إضافة الى العادات التي كانت سائدة في تلك الفترة من الزمن ،فالقارئ يلاحظ أن هناك علاقة ، وكلام يدور ويجري بين المرأة والرجل في ذلك الوقت مع مراعاة واحترام أعراف المجتمع ، وهذا يعطينا صورة عن الحرية النسبية في مجتمع الواحات ، أو المجتمع القريب من السواحل .
نلاحظ أن الفرح والخطوبة بين سليمان بن مانع وشيخة يتأجل ، مرة بسبب مرض أختها، ومرة بسبب مرور الأشهر الحرم ( محرم وصفر)، ومرة أخرى مراعاة للأوضاع السياسية المعاشة بالقطيف.
في مكان آخر تكشف لنا الرواية التصرف مع من يموتون فيغسلون ويتلى عليهم القرآن ليلاً الى الصباح، وفي الصباح تفرش الحصر( جمع حصير وهو فراش محلي يصنع من سعف النخيل) ليتجمع الناس لتشييع الميت.
وتكشف الرواية عن بعض العادات القديمة في تقديم رأس قند في مجلس عقد النكاح ، والذي هوعبارة عن سكر مجمد على شكل مخروط.
والكثير من الأشياء التي وردت في سرد أحداث الرواية ،ومنها بعض المصطلحات القديمة المستخدمة في اللهجة القطيفية الى درجة أن المراجع السيد عدنان العوامي، احتاج أن يدرج ملحقاً ودليلاً ارشادياً باللغة والشخوص والأماكن التي وردت في الرواية.
رواية شيخة مع مالها من أهداف تاريخية ،الا انها كما أراها تقدم نماذجاً للمرأة ، فالمرأة هنا ليست تلك المرأة الخائفة الرعديدة، أو تلك الفارغة التي ليس لها دور يذكر في المجتمع ، فالمرأة هنا ومن باب العيش الطبيعي تلعب أدواراً مهمة في الحياة الاجتماعية، فالروائي لا يؤلفأدواراً لهذه المرأة شيخة بطلة الرواية ، فعلى الرغم من الظلم الذي وقع عليها في زواجها الأول وهذه التفاتة مهمة وهو أن المجتمع في ذلك الوقت كان يظلم المرأة.. وأتوقع أن هذه ضمن سلبيات المجتمع السابق في القطيف ، الذي كان الخيرون من المجتمع يحاولون التخلص منه.
شيخة ( المرأة ) محبة كبيرة ، وفية لحبها ، عارفة بأحداث البلد ،متفاعلة معها ، صاحبة شيمة عندما وقفت مع اختها في مرضها ، ووصل الأمر بها أن تسافر الى البحرين لطلب العلاج لأختها .هذا من الجانب القطيفي.
في الطرف المقابل .. فقد ورد في الرواية اسم لامرأة في سيهات ، وهي اخت علي عبد الرحيم واسمها حكيمة ، كان لها دور كبير في اثناء حاكم سيهات من قتل عبد الله بن غانم ، او اعتبار كل المشكلات والحصار والهجوم ، والتخريب من رأس عبد الله بن غانم ، بل انها السياسة .
بحنكتها أبصرت أن ثمة من يقف خلف الأحداث ، ويحاول توسيع الهوة بين المنطقة الواحدة ، والمجتمع الواحد سيهات والقطيف .
ناهيك عن شخصيات نسوية أخرى ، مثل الخطابة أم صالح ، وهذه كانت تلعب دورا كبيرا في تقريب وجهات النظر بين الرجل والمرأة الذين يقصدون الزواج.
لقد رحل الكاتب علي حسن أبو السعود ، وترك لنا عملا جميلاً ، أسماه شيخة.