أولًا وقبل أن نبحر في ذلك المفهوم المُشار إليه كعنوان لتلك المصفوفة من الجُمل والمفردات المتواضعة، وعندما نمعّن النظر في علاقتنا بالآخرين من جهة، وكذلك بالعلاقات الاجتماعية بعضها ببعض من جهة أخرى، يتبين لنا جليًا أن هناك معضلة تحول دون الكثيرين من حولنا من الأبناء والأحبة والأصدقاء ولكل المحيطين بنا تجاه (الإقدام على الاعتذار) وكأن هذه السمة من السمات غير اللائقة بحقنا نحن بني البشر! بل ويعتقد البعض أنها صفة لا تليق وآدميتنا ولا تناسبنا على الإطلاق! لهذا ومع الأسف الشديد نتعامل معها على أنها فعلٌ يستحق التعالي والنكران. فالإنسان بطبيعته وبفطرته خطّاء، ومن المحتمل أن يُقدم على ارتكاب حماقات أو بعض التصرفات المزعجة بحق من حوله من أفراد وجماعات.
ويخطئ من يعتقد ويقول بأن لغة الاعتذار هي لغة الضعفاء، فهذا ليس صحيحًا ولا يمت للواقع بصلة. فثقافة الاعتذار ديدن الحكماء والشجعان من الرجال والنساء، بل هي صفة مرتبطة بصفاء القلوب، وحسن التربية وطيب المعشر ونقاء الضمير، ناهيك عن أنها سلوك يحبه الخالق -تبارك وتعالى- وقد جاء في كتابه الكريم قوله عز وجل:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران الآية ١٣٤].
لاشك أن كلام الله ليس له حد محدود في تفسيره ومعانيه، ولا يستطيع كائن من كان أن يُحصي ما في باطنه من أسرار ومعجزات. فالأحبار والأقلام والأوراق لم ولن تتمكن من إدراك ما جاء به هذا الكتاب المقدس المحصن من لدنه -جل في علاه- من معجزات حيّرت العقول من المهتمين بدراسته والتفقه فيه. إذًا وبشكل متواضع وبناء على القليل من استيعابنا وبساطة اطلاعنا نستخلص العبرة من الآية الكريمة؛ أن المسيطر على شيطان غضبه وكبح جماح غروره هو الشخص المتسامح مع ذاته أولًا وكذلك مع الأفراد الذين يحيطونه بجميع فئاتهم. ومن المعروف أيضًا كلما كان الإنسان أكثر واقعية تجاه نفسه وكلما اتصف بالعقلانية والاتزان والعلم النافع أصبح هذا الفرد أكثر تواضعًا وهدوءًا وتسامحًا وبمأمن عن كل ما هو عدواني ونراه يجنح دائمًا للسلم والاستقرار النفسي وبالتالي سيكون طريقه دومًا السعي المثمر والذي من خلاله تتحقق الكثير من المعاني السامية كالتآخي، وزيادة اللُّحمة بين الأفراد فيما بينهم، وكذلك قوة ومتانة الروابط الاجتماعية التي إن تحققت تحقق معها التطوير الذاتي والرقي الأخلاقي والسلوك المُجدي وبالتالي فإن أبواب النمو العقلاني ستُفتح وتكتمل الصورة التي تسعى كل المنظومات البشرية للوصول إليها كما ينبغي.
وقبل أن ننهي حديثنا نقول وبما يخص ثقافة الاعتذار إنها لا شك ثقافة يحتاجها الجميع لأنها تبعث على الصفح، ونسيان الماضي البغيض إن وجد! بل وتجعل مجتمعاتنا تتقدم بسرعة هائلة نحو الأفضل وتصبح النفوس ملؤها الحب والتقدير والاحترام لبعضها البعض وهذا بدوره يخلق مناخًا عامًا يسوده الألفة والتآخي ويرفع العزيمة والمعنويات التي تؤدي للوصول لنتائج مرغوبة فلا يوجد أجود من أن تنتشر ثقافة الاعتذار ولين الجانب والدفع باتجاه كل ما يخدم العملية المجتمعية والإنسانية. فالاعتذار والتسامح هما عنصران نصل من خلالهما لمفهوم ترسيخ التكامل البناء لرفعة سلوكنا القيمي الآدمي وهذا من منطلق (الدين المعاملة).
عزيزي القارئ إن الإقرار بالخطأ فضيلة، والاعتذار والإقلاع عنه فضيلة أخرى. كلاهما فضيلتان ترسخان المحافظة على روابط المحبة والتقدير والاحترام بين الناس وهما في الوقت ذاته وسائل تمنعنا من خسران من هم أعزاء علينا فالاعتذار -لاشك- هو علاج يضمّد الكثير من الجراح، ويمنع تطور الخصومة بل يوئدها في مهدها لكي لا نصل لمرحلة في علاقاتنا لا يحمد عقباها من تطورات تحيطها العديد من العوامل الأكثر سلبية كالتمزق والفرقة والنزاعات المؤلمة والتي قد تمكث في داخلنا على المدى البعيد وتكون جاثمة على صدورنا وهذا لن ينتج عنه إلا الإحباط والمزيد من الندم والخسران.
وبالتالي ونتيجة لذلك ستتسع المسافات بيننا وبين الرسالة السماوية التي ما جاءت إلا لتحقيق التكامل الإنساني بين بني البشر قاطبة يقول؛ جل في علاه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}. [سورة سبأ ٢٨]. وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء ١٠٧].