كثيرًا ما نَسَمَعُ ويتمُ تناولُ كلمة “حَدْس” أو ما يُسمى بالحاسةِ السادسةِ عندَ الكثيرِ مِنْ الناسِ، كأنْ يقول أحدهم للآخر بأنَّ حدسكَ أو حدسي في محلهِ أو محلكَ، عادةً ما تلازمُ وترادفُ هَذِهِ الكلمةُ الذكاءَ أو الفطنةَ أو التنبؤ أو استشرافَ بِمَا سَيَحْدُثُ فِي المستقبلِ القريبِ أو حتى البعيدِ، ومع كلِ هذا فإنهُ ما يزالُ الأمرُ عائمًا لم يتم تحديدهِ بطريقةٍ أكثر َدقةٍ، لذا يستلزمُ أَنْ نتناولَ ذلكَ بتحديدِ ماهيةَ الحدسِ لغويًا وفلسفيًا، ثم نستعرضُ ما قالهُ العلماءُ حَوْلَ مفهومِ الحدسِ، ثم نتناولُ ميزاتِ مَنْ يمتلكَ مِنْ الناسِ هَذِهِ الصفةِ، وكيفَ يتمُ تنميتها، ومدى مصداقيتها وأثرها الواقعي الملموسِِ على مَنْ يتصفُ بها ويمتلكها ووضع ذلك كله ضمن الميزان والضوابط الشرعية.
بَيَّنَ علماءُ اللغةِ الْحَدْسَ بأنهُ الفِراسة والذكاء، عندما نقول حدسًا بمعنى إدراك الشّيء إدراكًا مباشرًا من غير اعتماد على خبرة سابقة.
عُرِّفَ الْحَدْسُ (Intuition) على أنهُ إِدْرَاكُ الأَشْيَاءِ مِنْ خِلاَلِ شُعُورٍ دَاخِلِيٍّ يحسُّ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ دُونِ مَعْرِفَةٍ سابِقَةٍ. تَخَيَّلْ حالَ مَنْ خُلِقَ مَكْفوفَ البَصَرِ إِلاَّ أَنَّهُ جَيِّدُ الفِطْرَةِ قَوِيُّ الحَدْسِ.
وهنا نأتي لرأي العلماءِ في مفهومِ الْحَدْسِ، فقدْ حددَ أفلاطون وتلميذهُ أرسطو الْحَدْسَ على أنهُ تصورٌ فوري للمبادئِ الأولى، وبالتالي تعبيرٌ عن معرفةِ أكيدةٍ لأنه فيه الفكرُ يصلُ مباشرةً إلى محتوياتهِ، بما أنهُ الجمعُ بَيْنَ الموضوعِ والشيء، هذين المصطلحين، على الرغمِ مِنْ تناقضهما فهما مكملينِ لبعضهما البعض ومرتبطينِ ببعضهما.
كما عرفهُ إيمانويل كانت على أنهُ طريقةً معرفيةً وقسَّمه إلى ضربينِ؛ هما “الحدس الحساس”؛ أي معرفة غير فعالة (passive) تأتي عن طريقِ الحواسِ، و”الحدس الفكري”.
كما فسَّرهُ ابْنُ سِينَا بأنهُ “سرعةُ الانتقالِ مِنْ معلومٍ إلى مجهولٍ”. وفسرهُ الجرجاني صاحبُ “التعريفاتِ” بأنهُ “سرعةُ انتقالِ الذهنِ مِنْ المبادئِ إلى المطالبِ”. ورأى التهانوي أنَّ الْحَدْسَ “هو تمثلُ المبادئُ المترتبةُ فِي النفسِ، دفعةً واحدةً مِنْ غيرِ قصدٍ واختيارٍ، سواءً بعدَ طلبٍ أو لا، فيحصلُ المطلوبُ”. يقصدونَ بسرعةِ الانتقالِ أَنْ تتمثلَ المعانيُ فِي النفسِ دفعةً واحدةً فِي وقتٍ واحدٍ، كأنهُ وحيٌ أو وميضُ برقٍ.
ومِمَا يُمِيَّزُ مَنْ يَمْتَلِكَوْنَ حَدْسًا هو قُدْرَتُهَم عَلَى الشَّعُورِ بالأحداثِ وتَوقْعَها قبلَ حدوثها، ويَمِتَلِكُونَ إحساسًا دَاخِلِيًا عَاليًا، وهذا يُعتبرُ ذَكَاءً مِنْ نوعٍ فريدٍ حيثُ يَتَمَتَعُونَ بالقدرةِ عَلَى فهمِ إحْسَاسِهِم الغريزي والفراسةِ فِي معرفةِ الأشخاصِ.
لَدِيْهِمْ عمقٌ فِي التفكيرِ ويميلونَ للخيالِ بشكلٍ كبيرٍ، ويمكنُ مِنْ خِلَالِ النظرِ للونِ والشكلِ فهمُ الآخرينَ. يعتمدونَ على الشعورِ بالْحَدْسِ والإدراكِ لفكرةٍ معينةٍ دُونَ وجودِ دليلٍ منطقي عَلِيْهَا مِمَا يُؤدِي إلى التوقعِ مِنْ خِلَالهَا بِتَولد أفكارٍ مختلفةٍ وذلكَ مِنْ نتاجِ خبراتهم المُّتَرَاكِمَةِ.
الشخصية الحدسية تهتم بأمور مختلفة وغير مألوفة حيث تحب التنوع وتشعر بالملل من التنظيم بشكل مبالغ فيه.
أما تنميةُ الْحَدْسِ فيكونَ مِنْ خِلَالِ الاستماعِ بشكلٍ جيدٍ إلى روحهم الداخليةِ عبرَ التخيلِ والتفكيرِ بعمقٍ ويخصصونَ دائمًا وقتًا للخيالِ والعزلةِ والانطواءِ بعيدًا عَنْ الآخرينَ. كما يحبونَ الإبداعَ ويبتكرونَ أفكارًا جديدةً ولديهم القدرةُ على التركيزِ الذهني بشكلٍ شديدٍ. ويراقبونَ كلَ شيءٍ محيطٍ حَولِهم ويستمعونَ إلى روحهم الداخليةِ وجسدهم ويتواصلونَ مع الآخرينَ بشكلٍ رائعٍ، ويهتمونَ بِطموحهم وأحلامهم يستمتعونَ بوقتهم ويعيشونَ اللحظةَ الراهنةَ دائمًا، ويتجنبونَ المشاعرَ السلبيةَ، وكلَ ما يهمهم هو الحاضر ولا يفكرون في ألمِ الماضي أو الخوفِ مِنْ المستقبلِ.
لتنمية الحدس الذاتي لدى الفرد، يحتاج لاتباع أمور عدة:
1. كن جادّا في الاستماع لصوتك الدّاخلي.
2. خذ فترات راحة.
3. خصص أوقات للعزلة.
4. كن صادقًا مع نفسك.
5. اتبع حدسك قدر الإمكان.
يستلزم أَنْ يَكُونَ ما يُسمى بالحدسِ داخلًا ضمنَ الضوابطِ الشرعيةِ مِنْ خِلَالِ عدةِ محدداتٍ:
1- إمكاناتُ الإنسانِ محدودةٌ و مختلفةٌ مِنْ شخصٍ لآخر، والقليلُ مِمَنْ يمتلكونَ قدراتٍ أو ملكاتٍ خارقةٍ منحهم اللهُ إياها ويسلبها منهم حينَ يشاء سبحانه جل شأنه. جاءَ قولهِ تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
2- عدمُِ معرفةِ الإنسانِ بما سوفَ يَكُونَ وماذا سوفَ يحدثُ لهُ حتى ولو بعدَ ثوانٍ. قالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ [لقمان: 34].
3- معرفةُ حوادثِ الأيامِ وعلمِ الغيبِ لَمْ تكنْ متاحةً إلا لصفوةِ اللهِ وبإذنٍ منهُ سبحانهُ. قالَ تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26].
4- حكمةُ الباري جلَّ وعلا اقتضتْ أَنْ تكونَ هنالكَ أمورٌ يجبُ أَنْ تُخفى على الإنسانِ لاستقرارِ حياتهِ و ديمومتها.
قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101].
5- إنَّ هَذِهِ النظرياتَ حَوْلَ الحدسِ ما هي إلا اجتهاداتٍ بشريةٍ صرفةٍ لا تخلو مِنْ الاجتهادِ القابلِ لورودِ الخطأ فيهِ بشكلٍ كبيرٍ.
6- لا يُحكم على هَذِهِ الأمورِ بقطعيةِ الصوابِ والورودِ، إلا ما ذكرهُ اللهُ جلَّ شأنهُ عن طريقِ رسلهِ ومِمَنْ اصطفى مِنْ خلقهِ وما وردَ خلافُ ذلكَ يكونُ محلَ نظرٍ.
قالَ سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
وحتى نكونَ على الجَادَةِ و لا نجافي الصوابَ نسترشدُ بكتابِ الله وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله في كل ما ورد واستجد.
الهوامش:
[1] أفلاطون هو فيلسوف يوناني كلاسيكي، كاتبٌ لعددٍ مِنْ الحواراتِ الفلسفيةِ، ويعتبرُ مؤسسًا لأكاديميةِ أثينا التي هي أولُ معهدٍ للتعليمِ العالي في العالمِ الغربي، معلمهُ سقراط وتلميذهُ أرسطو. وضعَ أفلاطون الأسسَ الأولى للفلسفةِ الغربيةِ والعلومِ، كانَ تلميذًا لسقراط، وتأثرَ بأفكارهِ كما تأثرَ بإعدامهِ الظالمِ.
[3] إيمانويل هو فيلسوفٌ ألماني مِنْ القرنِ الثامنِ عشر. كَانَ آخرَ الفلاسفةِ المؤثرينَ في الثقافةِ الأوروبيةِ الحديثةِ. وأحدُ أهمُ الفلاسفةِ الذينَ كتبوا في نظريةِ المعرفةِ الكلاسيكيةِ.
[4] ابن سينا، عالمٌ وطبيبٌ مسلمٌ اشتهرَ بالطبِ والفلسفةِ واشتغلَ بهما. عُرف بإسمِ الشيخِ الرئيسِ وسماهُ الغربيونَ بأميرِ الأطباءِ وأبو الطبِ الحديثِ في العصورِ الوسطى. وقد ألّفَ 200 كتاب في مواضيعِ مختلفةٍ، العديدُ منها يركّزُ على الفلسفةِ والطبِ. وأشهرُ أعمالهِ كتابُ القانونُ في الطبِ.
[5] الجرجاني نحوي ومتكلم، ويُعد مؤسس علم البلاغة.
[6] التهانوي هو كاتب وعالم هندي، صاحب موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون.