أي عظمة كان عليها الإمام الباقر في خصاله وفضائل أخلاقه وتعامله الأخلاقي الرفيع مع الآخرين وخصوصًا من أساء إليه، ولا عجب في ذلك فهو (ع) سليل الدوحة المحمدية التي أرست مكارم الأخلاق وطبّقتها بأبهى وأرفع درجاتها، وهذا ما جعله (ع) مهوى أفئدة الناس يبتغون الاغتراف من بحر علمه الزاخر واقتناص الفرص لتسجيل تلك المواقف الأخلاقية والتربوية الصادرة منه، والتي تنبئ عن شخصية تشكل امتدادًا لخط الأنبياء والأئمة في سماته الرائعة وسيرته الغراء.
ولقد كان الإمام الباقر (ع) بحق وارث علوم جده المصطفى (ص) وناشر تلك المعارف الحقة، وإن لقبه الذي اشتهر به له دلالة على سمة مهمة للعصر الذي عاشه الإمام والدور الكبير الذي أداه في خط التبليغ والإرشاد، فالباقر هو صاحب العلم الزاخر كالبحر في سعته وتفرعه وهذا أصدق وصف للمعارف الباقرية، فقد اعتلى منبر جده المصطفى (ص) في المدينة المنورة وتحمل مسؤولية التوجيه والتنوير المعرفي للأمة، وحضر العلماء وعشاق العلم مجلسه يتزودون من منبع المعارف القرآنية والمسائل الشرعية والعقائدية، وقد اعترف بتسنمه (ع) قمة الهرم المعرفي كبار العلماء في المدينة ومنهم عبد الله بن عمر، والذي أتاه سائل عن مسألة فحار في جوابها وتطلع في جنبات الحرم المدني فوجد غلامًا صغير السن – وهو الإمام الباقر – فدله عليه ليجد عنده ضالته العلمية وطلب منه أن يرجع إليه ويخبره بالجواب، فتوجه الرجل نحو الإمام الباقر وأجابه ثم رجع قافلًا لابن عمر وأخبره بالجواب، فقال ابن عمر: إنهم أهل بيت مفهمون.
وهذه الواقعة لها دلالاتها المتعددة والتي ينبغي التوقف عندها والإشارة لها بنحو الإجمال، إذ أنها تدل على نوعية العلوم الحقة التي يحملها أهل البيت (ع) المتصفة باللدنية لا الاكتسابية، فحينما تتحدث عن غلام صغير يحمل من العلوم والأجوبة ما لا يتحمله غيره فذلك يعني أنه مسدد بالعناية الإلهية الخاصة، وأنهم (ع) يحملون من الفضائل العلمية والأخلاقية ما جعلهم سادة الأنام فلا يفوقهم ولا يتقدم عليهم أحد، يحملون من الاستعدادات والقابليات لتحمل مهمة التبليغ بعد النبي المصطفى (ص) لما يحملونه من جوانب الفهم والحكمة ما يجعلهم مرجعية رشيدة للناس، وإلا فكيف نفسر ظاهرة وجود غلام صغير لا تخفى عليه أدق المسائل ولا يحار في جواب أي مسألة منها!
كما أن الله تعالى جمع فيهم كل صفات الخير والفضيلة بأعلى درجاتها وسمت نفوسهم بما امتلكته من روح إيمانية وعبادية وأخلاقية لا نظير لها.
ومن الصفات الرائعة التي تميز بها الإمام الباقر (ع) هي سعة الصدر وكظم الغيظ والتسامح مع الآخرين خصوصًا من يسيء إليه، وبالطبع فإن تلك الصفة مهمة جدًا في طريق التبليغ والإرشاد لاختلاف شخصيات الناس ووجود من يتصف بالعناد والكيدية والكراهية، وهؤلاء لن تجدي معهم الكثير من الكلمات والمحاضرات في هدايتهم، بقدر حاجتهم لمواقف أخلاقية تهز وجدانهم وتعيد لهم وعيهم وتخرجهم من سكرة الغفلة والعناد، إذ مقابلة الظلم والإساءة بالمعروف والإحسان تخرج ما في القلوب من ضغائن، فالصفح عن المسيء أقرب الطرق لهدايته وتوقفه عن غيه واستدارته نحو الحق والفضيلة، ومن أروع المشاهد الأخلاقية التي نقلت عن الإمام الباقر وكانت سببًا لهداية إنسان مسيء وانتشاله من وحل الانحدار الأخلاقي، ما ورد أن شاميًا كان يحضر مجلسه ليستفيد من علمه مع شدة بغضه للإمام (ع)، وقال له (ع) ذات يوم: يا محمّد إنما أغشى مجلسك لا حبًّا مني إليك، ولكني أراك رجلًا فصيحًا لك أدب وحسن لفظ، فإنّما اختلف إليك لحسن أدبك!
فما كان من الإمام إلا أن قابل إساءته بمزيد من الإحسان إليه وأغدق عليه من عطفه حتى أشرق نور الهداية في قلبه وبقي ملازمًا للإمام (ع).