المنبر الحسيني ونداءات العصر

لو كنّا بصدد الحديث عن صدى صوت الحسين (ع) في هذا العالم، بعد مرور قرون طويلة على فاجعة استشهاده، فإنّ من أبرز مصاديق هذا الصدى هو المنبر الحسينيّ، وهذا ما يجعل المنبر محمّلًا بمسؤوليّة قداسة النهضة الحسينيّة، ومؤمَّنًا على مقاصدها ومطامحها.

ولا شكّ أنّ هذه النهضة حيّة، بمعنى أنها كائن ينمو ليواكب الزمن، ويندكّ في ميادين وساحات الحياة الجديدة، في هذه الدقائق المعدودة أُريد أن أسلط الضوء على أهمّ النقاط التي أصبح الجيل الجديد يتطلّعُ إلى وجودها في هذا المنبر المقدّس.

أولًا: الطرحُ الفكريّ المتقن:
ومنشأُ الحاجة إلى هذا الأمر هو وجود سرعةٍ ضوئيّةٍ معاصرة لنشر وتفريخ الشبهات المشككة في الدين ومساراته الرئيسة، فإن لم يتصدّ المنبرُ لتغذية المجتمع بجرعات الحصانة الفكريّة، فمن سيقوم بهذا الدور المهم والخطير؟! أوليس الحُسين (ع) مصباح الهدى وسفينةُ النجاة؟!

ولربّ قائلٍ يشكل بأنّ هذا الأمر (الرد على الشبهات والإشكالات) ليس محلّه المنبر، وإنّ أبلغ جوابٍ على مثل هذا الإشكال هو ملاحظة خطب أمير المؤمنين (ع) في مطلع حروبه مع جنوده، كيف كان يتحدث عن التوحيد ومعرفة الله، ومناقشة مقولات التجسيم، مع أنه يمكن أن يُقال: يا أمير المؤمنين، هلّا تكلمت في تحميس الفرسان وشدّ سواعد الجنود، أما الإثباتات الكلاميّة والإيمانيّة فتلك محلها في خطبة الجمعة في المسجد.

لكنّ الحقيقة هي أنّ بناء الدين بناءٌ تكامليّ انسجاميّ، وليس تشريحيًّا تجزيئيًّا.

ثانيًا: عقلنة الطرح:
فينبغي مراعاةُ مسألة مهمّة، وهي أننا نعيش في عصر انفجار المعرفة وكمّ المعلومات وسهولة الحصول عليها، فلم يعدّ الخطيب طرفًا أوحديًّا في صناعة الفكرة الخطابيّة، بل أصبح المستمع يشارك الخطيب في التفاعل والتداخل مع خلفيّات وسطوح وأعماق الفكرة بالبحث والتدقيق والتحقيق، كما أنّ طرح أي معلومةٍ دون إثباتٍ محكم، قد لا يأتي بنتائج سليمة، فالأفضل هو تركيز الحديث في نقطةٍ منظومة وباستدلالات محكمة.. على طريقة منطق القرآن الكريم: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.

ثالثًا: اللين في الطرح:
فإنّ أسلوب الشدّة والغلظة والزجر قد يؤدي في كثير من نتائجه إلى ردات فعل عكسيّة، خصوصًا مع كثرة انتشار التقطيع الجزئي والاصطياد في الماء العكر على بعض الخطباء، وهي ظاهرة غير طيبة وغير سليمة، لكنها ومع بالغ الأسف أصبحت أمرًا واقعًا في كلّ العالم، وليس على مستوى هذه الدائرة فقط، ونحن هنا لا ننفي جانبًا من الحزم والغلظة في الدين، لكنّ موردها الكفار والمنافقين والمعتدين: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِين وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أما الحاضرون تحت المنبر فهم ليسو من المنافقين والكفار حتى يغلظ عليهم، بل هم أحباب الحسين (ع) وضيوفه الذين ينبغي التلطف مهم والرفق بهم، وقد قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، ولم يقل له أن يغلظ عليهم.

رابعًا: تعزيز الإشراقات الحضارية للدين:
إذ لا يخفى أننا نعيش في عصر احتدام السجال بين المنظومات الفكريّة، والصراع بين الحضارات المختلفة، فينبغي على الخطيب المحترم والموّفق -إن شاء الله- أن يبرز للشباب مديات التقدم والنهضة الحضاريّة التي يقدمها الدين كنموذج ويحملها كرسالة للعالم الإنساني، ليشعر بجذوة الفخر والانتماء لهذا الدين وهذه الرسالة المقدسة التي قال عنها الله إنها تخرج الناس من الظلمات إلى النور.

اللهم صل على الحسين (ع) وعلى جده وأبيه وأمه، وعلى أبنائه الطاهرين، وعلى الذين يخدمونه ويعشقونه ما بقي الليل والنهار.


نص تم إلقاؤه في حفل التكريم للبرنامج النقدي لموسم محرم للعلامة الشيخ محمد العبيدان



error: المحتوي محمي