شركات هندسة الجينات.. لم يدركوا خطورة ما يفعلونه!

يثار عادة بين الناس أحاديث حول فوائد وأضرار بعض الأغذية وعلاقتها بالصحة والمرض، إلا أن كثيرًا مما يثار حولها مازال يترك للمتأمل أكثر من تساؤل، ولعل الاضطراب في وضوح الصورة عند كثير من الناس وترديدهم الدائم بالقول نصدق من؟ سببه تلك المقاطع الصوتية والمرئية المنتشرة عبر قنوات التواصل بصور شتى يشارك فيها مختصون وغير مختصين وكلٌ يدلي بدلوه بعلم ودون علم مما أثر بصورة سلبية على ثقة المستهلك، كل ذلك بسبب تلك القنوات أو الصفحات المتاحة التي جذبت أصحاب المفاهيم الخاطئة لتقول كلمتها وتعبر عن أفكارها، مع عدم وجود الرقابة الذاتية والأمانة فمن ذا الذي يستطيع أن يسيطر عليها خصوصًا أنها متاحة للجميع.

هذه مقدمة اضطررت إليها لكي يفهم ما أقصد من بقية كلامي، فنحن نسمع ونشاهد ما يخطر وما لا يخطر على البال.

فوجئت بكلام ورد على لسان أحد الأساتذة الاستشاريين في التغذية: لقد تلقيت من أسبوع فيديو نشر عبر قنوات التواصل، تحدث فيه صاحب المقطع عن مسألة القمح المعدل وراثيًا، مما أثار اهتمامي، فاستحق نظرة ناقدة، ومع الأسف يتبنى هذا المفهوم الخاطئ أناس من المختصين في هذا المضمار.

والواقع أن ما نشاهده اليوم لا يحتاج إلى الكثير من التأمل لندرك أن الحديث عن الأغذية المعدلة وراثيًا أصبح واقعًا لا يستطيع أحد منا تجاوزه، مهما قيل خلاف ذلك الواقع، إصرار البعض على تحويلها إلى هدف حيوي في مواجهة تحديات العصر الحديث لا ينقص من آثارها الخطرة على الحياة، فكثير من المنتجات الزراعية التي نأكلها الآن أنتجتها الهندسة الوراثية، أي أنها جاءت نتيجة إجراء تغييرات في التركيب الوراثي الأصلي لها.

ولكن السؤال: هل هذه المنتجات آمنة؟ للإجابة عن هذا التساؤل: هذه الأغذية مثيرة للجدل، يرى الأمريكيون أنها أغذية آمنة، فهل هم على حق؟! إن الدعوات إلى قبول المنتجات المعدلة وراثيًا بكلمات وشعارات براقة دون أن يقدم لنا صاحب هذا التوجه أي دليل على مأمونية وسلامة ما يسوقه، لا تبدو مقنعة تمامًا للمستهلكين الذين ما زالوا رغم التطمينات الكثيرة غير مرتاحين إلى هذه المنتجات.

مع احترامي لحديث الدكتور صار إنتاج الأغذية المعدلة وراثيًا حقيقة واقعة في أنحاء مختلفة من العالم وبما يحتمل أن يمثله ذلك من مخاطر على البيئة والتنوع الحيوي وصحة الإنسان، ويبقى علينا أن نقرأ كل ما ورد من نقاط، وأن نقرأها قراءة صحيحة، ونتعامل معها بموضوعية، ونترك خيارات مفيدة وضرورية لصحتنا:
أولًا – القول بأنه لا يوجد دليل علمي على أن القمح معدل وراثيًا، كلام لم يعد مقبولًا، فهل بهذا الكلام يرغب الدكتور طمأنة الناس بعد موجة من المعارضة الشرسة ضد تقنية التعديل الوراثي للغذاء، أم هو لتحسين صورة هذه المنتجات الغذائية؟! يفيد علماء البيولوجي بأن معظم الغذاء المنتج حاليًا – إن لم يكن كله – قد أنتج بالتحوير والتغيير في طبيعة الغذاء. المصدر: 540/ 2010 م – كتيب عن الأغذية المعدلة ً وراثيا – وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان.

وتمتلك الدول الصناعية التقنيات لإنتاج مثل هذه الأغذية المعدَّلة وراثيًا وفي مقدمة تلك الدول الولايات المتحدة الأمريكية حيث تقوم بإنتاج ما يقرب من (68%) من إجمالي تلك الأغذية تليها الأرجنتين ثم كندا والصين، وهذه الإحصائية منذ عام 2010م، وهناك حظر أو قيود صارمة تفرضها بعض الدول، وكذلك حملات معارضة من ناخبين ومنظمات حماية البيئة وحركات السلام وأصدقاء الأرض وجهات صحية مختلفة متعلقة بحماية الحياة والبيئة ومؤسسات خاصة بحماية المستهلكين ضد التلاعب بالجينات الوراثية، وقد شهدنا تخلص بعض البلدان من بقايا المحاصيل الزراعية المعدلة وراثيًا، كما حصل في المجر التي أحرقت كل حقول الذرة المعدَّلة وراثيًا؛ كون التلاعب بالجينات يفرض أخطارًا على صحة سكان العالم، وأكثر المحاصيل المعدَّلة وراثيًا والتي تزرع حاليًا على نطاق واسع: القمح والأرز والشعير والشوفان وفول الصويا والقطن والذرة والشمندر والبطاطس والطماطم والكانولا والبطيخ والموز والكوسا والقرع العسلي وغيرها من المحاصيل الزراعية الشائعة.

ثانيًا – القول بأنه لا يمكن للمختبرات أن تثبت إذا كان القمح معدل وراثيًا أم لا، فهذه إفادة غير موفقة، والسؤال هنا: هل قمت بزيارة استكشافية للهيئة العامة للغذاء والدواء واطلعت على أقسام المختبرات والتحاليل والاختبارات المعتمدة، وأقل من ذلك؛ هل قرأت الكتيب التعريفي لتتعرف على الفحوصات المخبرية التي تجريها الهيئة؟ الطريقة المستخدمة في تقدير المواد المُحوَّرة وراثيًا ترتكز على البحث عن الوحدة الجينية المدخلة للنباتات، وفي هذا الغرض تم استعمال تقنية الـPCR، وهي الأكثر رواجًا، ومبدأ هذه التقنية هو القيام بإكثار منطقة معينة من الحامض النووي، وهذه التقنية كشفت الكثير من المنتجات الغذائية النباتية والحيوانية التي تم التلاعب في خصائصها جينيًا.

وتحليل الأغذية المعدلة وراثيًا (GMO) من ضمن التحاليل المعتمدة في أقسام مختبرات الهيئة العامة للغذاء والدواء، كما أن الكوادر الوطنية في قسم الأحياء الدقيقة بالهيئة خلال هذا العام أجرت مسحًا ميدانيًا لرصد الأغذية المعدلة وراثيًا مثل القمح والشعير والسكر والذرة، ونجحت في فحص وتقدير نسبة التعديل الوراثي في بعض المنتجات الغذائية والتي تجاوز بعضها الحد الأقصى المسموح به، والمطلوب ألا تزيد النسبة على 1% من العناصر المحورة وراثيًا. (المصدر GSO 2142/ 2011).

ثالثًا – نحن معاك في كون الشركات العالمية المنتجة للأغذية غير أمينة على صحتنا، همّها الوحيد المردود الاقتصادي العالي حتى ولو كان على حساب صحة الإنسان، لكن أن تبدي حرصك على عدم تناول أي غذاء إلا بعد خضوعه للفحص المخبري، وهذه التوصية خلاف قولك بأن المختبرات لا يمكنها إثبات ذلك، كما أن المستهلك كيف له أن يعرف أن المنتج معدل وراثيًا وهو يشتري متطلباته من مراكز التسوق أو أسواق الخضار والحبوب، إلا إذا قرأ البطاقة التعريفية للمنتج، فالكثير منا يضع الحاجيات في عربة التسوق مباشرة دون الاطلاع على البطاقة والتأكد من محتواها ومن النصائح والإرشادات والتحذيرات المهمة.

رابعًا – حبوب القمح والشعير والشوفان من الأغذية التي تحتوي على مادة الجلوتين بصورة طبيعية وقد تسبب للأشخاص رد فعل مناعي عندما يأكلون تلك الأغذية، إلا أن تعريض تلك الحبوب إلى المعالجات الجينية. قد يرفع من مستوى حساسية الجلوتين لمن يعانون المناعة الذاتية سيلياك.

وتنص التشريعات الدولية ببعض الدول المستوردة قبل فسح مثل هذه المنتجات بوضع ملصقات تبين أن هذه المنتجات معدلة وراثيًا بينما تقف دول أخرى ضد إدخالها وتسويقها. وحيث إن المملكة من الدول المستوردة للمنتجات الغذائية أو المواد التي تدخل في تصنيعها من دول انتشرت فيها المنتجات المعدلة وراثيًا، وبحكم تداول هذه المنتجات “استيرادها، تسويقها، استهلاكها أو حتى تصنيعها” ولتضمن حماية المستهلك؛ من هنا كان لزامًا على الجهات المعنية ضبط انتشار هذه الأغذية بالدرجة التي يتضح خطرها على الصحة العامة على الناس.

يسمح باستخدام الأغذية المحورة وراثيًا طبقًا للوائح الفنية والمواصفات القياسية السعودية والخليجية ومنها: يجب أن تكون مصحوبة بشهادة مصدقة تفيد بأن المنتج يتم استهلاكه في بلد المنشأ. ويشترط وضع ملصق على المنتج المحور وراثيا يبين عبارة (محور وراثيًا، أو أنتج من كائن محور وراثيًا) وأن تكتب بخط واضح ومقروء ضمن قائمة المكونات بين قوسين مباشرة بعد المكون المعني وبنفس حجم الخط وبلون مختلف. (المصدر: GSO 2142/2011).

وهنا تظهر أهمية الفحوصات المخبرية التي تحدد عما إذا كان الغذاء قد تعرض للتعديل الوراثي.
تطالعنا في متاجر الأطعمة أصناف تفوق أسعارها بشكل ملحوظ أسعار أصناف أخرى من النوع نفسه. ولتبرير الفرق في اختلاف الأسعار، نجد الباعة قد أعلنوا عن الصنف (وبجوار سعره المرتفع) أنه “عضوي”، فماذا عن الأصناف الأخرى؟ وتحديدًا الأصناف المعدَّلة وراثيًا؟ لماذا يتم الإعلان عن تلك وليس عن هذه؟

المنتجات العضوية التي نراها اليوم فاخرة، هي ما كان يأكله آباؤنا وأجدادنا كل يوم، ولكن التطور العلمي في مجال الأبحاث الجينية، أغرق الأسواق بالمنتجات المعدَّلة وراثيًا، بحيث صارت لائحة المواد الغذائية شبه خالية تمامًا من الحمض النووي الأصلي أو تحتوي على نسبة قليلة منه، تشمل من جملة ما تشمل معظم الحبوب والشمندر السكري (أي ًالسكر) والبطاطس والبابايا والأجبان، وصولًا إلى آخر المبتكرات: اللحوم وفي طليعتها سمك السلمون، ومن ضمن هذه اللائحة الطويلة تثير الحبوب، وخاصة الذرة، إشكالية كبيرة بسبب كثرة مشتقاتها الداخلية في صناعات غذائية كثيرة، وخاصة الزيوت والنشويات التي تضاف إلى العصائر، ويدخل بعضها ضمن مواد حفظ المعلبات.

لا يبدو في الأفق أي بارقة أمل لتبرئة المحاصيل الزراعية المحورة وراثيًا من إحداثها آثارًا خطرة على الإنسان والبيئة، خبراء الزراعة والبيئة والتغذية يرون أن المحاصيل الغذائية المعدلة وراثيًا قد خيّبت الآمال والتوقعات في أسواق العالم، لدرجة أن مستقبلها أصبح غير واضح الآن، إذ تواجه بمعارضة أوروبية صلدة، وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية أكبر أنصار التكنولوجيا الحيوية؛ تأثر المواطن الأمريكي بالجدل الدائر حول الآثار الصحية والبيئية للأغذية المعدَّلة وراثيًا، وأصابه التشوش، وصار يهتم بمراجعة مكونات غذائه المنتجة بهذه التكنولوجيا، كما تزايد اتجاه المستهلكين في الغرب نحو الأغذية العضوية.

التلاعب في الخصائص الجينية للنباتات يمكن أن نصفه بأنه وباء عالمي. بعد تحقيق شركة مونسانتو الأمريكية اختراقات ملحوظة في هندسة الجينات، لم يدركوا خطورة ما يفعلونه، وستكون نتائجه مؤلمة جدًا لكل الكائنات على وجه البسيطة وخاصة البشر.

وأخيرًا، هل يمكن للاقتصاد أن ينمو من دون تدمير البيئة؟ وهل ستؤدي أساليب حياتنا الحديثة إلى إفقار هذا الكوكب وجعله غير صالح لعيش أطفالنا وأحفادنا؟ قبل قرن من الزمن، لم تكن هذه الأسئلة منطقية، ولكن ذلك لا يعود إلى أن أسلافنا لم يكن لهم أي تأثير على الطبيعة. وإنما ما كان غائبًا عنهم هو فكرة الترابط والعواقب التي يتكون منها العالم الطبيعي. فمن دون هذه الفكرة، لم يكن لدى من سبقنا إلى العيش على هذا الكوكب طريقة لوصف نطاق “الأثر البشري على الطبيعة”.


منصور الصلبوخ – أخصائي تغذية وملوثات.



error: المحتوي محمي