الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ

إنها الساعة 3:30 بعد الظهر من يوم الأحد الموافق 20 جمادى الآخرة 1443.
صمت مخيف لا يشبه إلا نفسه يتسلل إلى هنا!

دخلت الغرفة الخاصة التي أنفرد فيها وابنتي لحضور دروس المنصة، كل شيء كان جامدًا على غير عادته، لأول مرة اكتشف أن صوت الهدوء بدا مزعجًا وأكثر إرباكًا.

ويا للعجب! حين تجد نفسك عالقًا بشيء
مثقل بالمسؤولية ويصبح جزءًا لا يتجزأ من يومك.

فقد اعتدنا على ضجيج المنصة الباعث في الموت حياة. أصوات الطالبات ومشاكساتهن. شرح المعلمات وتوصياتهن.

قفزت نحو مكتبي، تناولت محبرتي، قلمي ودفتري وما وجدتني إلا وأنا أكتب وكلماتي تتدفق على ناصية الورق وأنا التي ما اعتدت إلا أن أسلط الضوء غالبًا على مواطن الجمال، متجاوزة القصور الواردة التي لا يخلو منها أحد منا.

هنا فصل من فصول تجربتي مع التعليم عن بعد: تجربتي التي رغم قساوتها إلا أنني ارتأيت فيها فرصة للنمو والازدهار.

بعد انتهاء طفلتي “حور” من مرحلة الطفولة المبكرة، وتعد هذه بحد ذاتها نقلة إلا أنها انتقلت معها نقلة ثانية فبدأ تحول كبير إذ نُقِلتْ لمدرسة أخرى فهي الآن ضمن فصول المرحلة العليا من الابتدائي.

وكقلب كل أم تنتقل طفلتها لمرحلة جديدة ومدرسة جديدة -ولم يكن ذلك اختياريًا- ساور جدران قلبي القلق.

وفي أوج قلقي حيال تلك المرحلة التي أسميتها “مرحلة عنق الزجاجة” كان هناك صوت داخلي يهدئني مرددًا: “الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ”.

فكانت البداية وبلا شك تشبه كل البدايات، مليئة بالتخبط وعصية على الفهم وهذا أمر طبيعي جدًا لكننا نستعجل النتائج دائمًا!

وفي وسط تذمري كل مرة وعدم تقبلي لذلك التحول، كنت أسمع الصوت ذاته.

مرت الأيام وبدأت الأمور تتكشّف. بعد رفقة خمسة أشهر من المنصة مع معلمات فصل رابع / 2 من الابتدائية التاسعة بالقطيف، ما كان يمكنني تجاهل ما وجدت، وربما لأنني مهتمة مؤخرًا بدراسة منهجية التنشئة عبر التواصل مع الطفل فكانت فرصتي لأن أتأمل ما يدور حولي.

اكتشفت أنني أمام كفاءات عالية يقاتلن ويجاهدن من خلف الشاشة لإيصال الرسالة رغم مشقة الطريق، ينفخن من روحهن روحًا ليبعثن فيها ألف حياة.

بدءًا بمن رافقننا كل يوم المعلمة أمامة الربابي والمعلمة فتحية الفشخي، مرورًا بأغلبيتهن رفقة المعلمة آسيا المخلوق والمعلمة زينب الهاشم، وانتهاءً عند أقلهن رفقة المعلمة مديحة الزين والمعلمة عبير الأحمد والمعلمة سهام العنزي والمعلمة هند الزين والمعلمة هند القطان والمعلمة خيرية الجراش والمعلمة صالحة المهر.

كلهن ورغم اختلاف أساليبهن؛ ما بين حنان طاغٍ، ولغة خطاب راقية، واحتواء ومشاعر متدفقة، وهدوء، وصبر وحكمة، ولطف واحترام لعقول الصغيرات، وأمومة واعية، وحس عال بالمسؤولية، وحزم وشدة وحماس منقطع النظير مع الطالبات، شكّلنَ توليفة رائعة قادرة على المساهمة في صناعة جيل واع، متعلم، مدرك ومسؤول إن تكاتفت معهن بقية الأضلاع.

وكيف أن كل ذلك حقق شعور الانتماء الذي هو مدعاة للتكامل في منظومة التعليم.

فيا للروعة! إذ كان بعضهن أيضًا يمرر قيمًا أخلاقية وتربوية للطالبات في مواد أبعد ما أن تحتمل ذلك. أليس المعلم الحكيم والفطن هو من يقتنص الفرص ليمرر القيم بربط عجيب ومقاربات ذكية؟ ولماذا أكبرت ذلك؟ ليقيني أن بصمة المعلم أشد وطئًا وأعمق تأثيرًا.

فليس ترفًا أن يتلقى الطلبة كل تلك المعاملة والاحتواء بل ضرورة لا يدركها إلا كل واعٍ ومسؤول.

وها أنا ذا بعدما عادت الدراسة حضوريًا أودعت ابنتي “حور” – ورغم وجع الانفصال بعد عامين وهي بين أحضاني – إلا أني على ثقة أنها بين أيدٍ أمينة مع معلمات بتوقعات متزنة لا يرفعن سقف توقعاتهن بنظرة أفلاطونية.

كما أتطلع أن نكون جميعًا على وعي أن المرحلة استثنائية يجب التعامل معها بواقعية لأنها تركت ثغرات تحتاج لترميم وربما هناك منها من لم يطفو على السطح بعد وبحاجة لمشوار.

فعامان من اختلال كفة الكون كفيلة بالتأثير على نموهن النفسي والاجتماعي فرفقًا رفقًا بهن.

ما فتئ قلبي حتى هذه اللحظة يردد: “الله أَعْلَم حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ”.

ونعم بالله.



error: المحتوي محمي