الخوف! هذا هو الشعور الذي يسيطر على (جمال) في حياته اليومية، فعلامات الحزن والكآبة واضحة على ملامح وجهه. بالرغم من أنه في عز شبابه فعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين ولكن مظهره الخارجي وكأنه في الخمسين من العمر.
(جمال) موظف في إحدى القطاعات الخاصة. وغير متزوج. ويعيش مع والديه وله أخ أكبر منه (عبد العزيز) متزوج ولديه أطفال وهو أفضل حاليًا من (جمال).
منذ أكثر من عامين تحولت حياة جمال من السعادة والمرح وحب الاجتماع مع الآخرين ولقاء الأصدقاء إلى حالة العزلة والكآبة. فهو حبيس الدار. يجلس على ذلك الكرسي المتحرك. لا يستقبل أحدًا من الأهل أو الأصدقاء. فكان خروجه من البيت فقط للمراجعة الطبية والعلاج الطبيعي في المستشفى.
يساعده أخوه (عبد العزيز) لركوب السيارة: حسنًا يا (جمال) امسك بكتفي. على مهلك. هذا جيد.
وأخيرًا صعدت يا (جمال) السيارة. (عبد العزيز) يتنفس بسرعة فقد أتعبه حمل أخيه ومساعدته لركوب السيارة.
أثناء توجههما للمستشفى (حيث إن المستشفى بعيد عن بيتهما) تتجاوزهما سيارة مسرعة جدًا. ومن سرعتها اهتزت السيارة وفزع جمال من صوتها القوي. وقال: بسم الله الرحمن الرحيم. ما هذه السرعة الجنونية؟!
ينظر له (عبد العزيز) ويقول له: هل فزعت منها؟ حقًا إنه مجنون. فقد يعرض نفسه والآخرين للخطر.
جمال يرد عليه بصوت ضعيف: ليته يعرف عواقب هذا الاستهتار. أسند (جمال) رأسه على الكرسي. وأغمض عينيه. وأبحر في أفكاره. ليعود لذلك اليوم الأسود الذي جعله حبيس الكرسي والدار!
ففي أحد الأيام كان (جمال) مع أصدقائه في رحلة على شاطئ البحر، وكان الطقس جميلًا والأجواء مفعمة بالمرح والسعادة. والأصدقاء مجتمعون على وجبة الغداء وهم يتبادلون أطراف الحديث. ويمزحون ويضحكون. من بين الأصدقاء (محمد) وهو يحب التحدي والإثارة والمغامرة، ويجد نفسه شجاعًا وقويًا وذكيًا.
أثناء الحديث قال (محمد) من يتحداني في سباق السيارات؟ نظر إليه الأصدقاء وقالوا له: نحن هنا للاستمتاع بوقتنا والراحة. دع عنك هذا الكلام.
محمد: وهو يبتسم وهل أنتم خائفون من الخسارة؟ أو لا تملكون البراعة في قيادة السيارات مثلي؟
نظر الأصدقاء إلى بعضهم البعض نظرة بها انزعاج من هذا التصرف! رد عليه (جمال) قائلًا: يا (محمد) ألا ترى أنك تبالغ في أمور التحدي كثيرًا؟ نحن نعلم أنك شجاع وتحب المغامرة ولكن ليس في كل الأوقات تطرح علينا مثل هذه التحديات فربما تكون عاقبتها سيئة.
محمد: يضحك. ويضرب بيده على جيبه. ويقول: أنا جاد فيما أقول وأتحدى أي شخص منكم إن غلبني فله مبلغ من المال.
انزعج (جمال) من ثرثرة (محمد) وفكر في وضع حد له. نهض (جمال) وهو يقول: أنا أقبل التحدي.
محمد ينظر لجمال بنظرة ساخرة ويقول: أنت؟ وكيف؟ وبهذه السيارة؟ وأشار إلى سيارة جمال القديمة.
جمال: نعم أنا، وبهذه السيارة القديمة. ولكن ليس سباق سيارات! إذا كنت تدعي أنك شجاع فستركب معي وأقود السيارة بسرعة وبطريقتي الخاصة وأريك مدى براعتي في السيطرة عليها. وسترى ذلك.
محمد: هل تشهدون على ذلك يا أصدقاء؟ ثم نهض وقال: هيا يا (جمال) أرنا براعتك!
أحد الأصدقاء قال: لا تفعل ذلك يا (جمال) ولا تتهور معه. فهذا خطر عليكما.
توجها إلى السيارة. والأصدقاء يراقبون ذلك. والصمت سيد الموقف. المكان خالٍ والطريق طويل. ولا يُسمع إلا صوت الرياح وأمواج البحر. وأصوات طيور النورس وهي تحلق في السماء.
بدأ بتشغيل السيارة. وتحركت ببطء. قليلًا وقليلًا تزداد السرعة. (محمد) يضحك ويقول: هيا يا (جمال) سيارتك أبطأ من السلحفاة!
جمال يقود السيارة وصلت إلى أقصى سرعة لها. صوت الهواء يدخل من النوافذ وكأن السيارة تموج في البحر من وعرة الطريق الرملي. انتاب (جمال) شعور بالخوف. فهذه أول مرة يسير بهذه السرعة. بدأ يتصبب عرقًا. وفرائصه ترتعد. ولكنه حاول أن يتمالك نفسه ولا يظهر أمام (محمد) أنه استسلم وظهر عليه الخوف.
فجأة! (جمال) يفقد السيطرة على السيارة.
(محمد): انتبه يا (جمال) أمسك بالمقود جيدًا. ارفع رجلك عن دعسة الوقود. تنجرف بهما. بدأ الصراخ داخل السيارة. انقلبت عدة مرات. تطايرت منها عدة أجزاء وتهشمت، واستقرت على ظهرها.
تسارع الأصدقاء لمكان الحادث. الغبارة والدخان يملأ المكان. لا تكاد أن ترى السيارة. وبسرعة أخرجوهما من السيارة والدماء تسيل منهما، اتصل بالإسعاف (قال أحدهم).
وضعوهما على الأرض. ولكن بلا حراك. مغشي عليهما. ساد الهلع والخوف بين الأصدقاء. وبعد نصف ساعة. جاءت سيارة الإسعاف. نقلتهما للمستشفى. انتشر الخبر في المنطقة. عم الحزن والخوف عليهما.
الأصدقاء في المستشفى ينتظرون الدكتور يخرج من غرفة الإنعاش. يستقبله أحد الأصدقاء: طمّنا يا دكتور.
الدكتور: هل أنت من أقربائهما؟ لا ولكن صديقهما.
الدكتور ينظر إليه ويقول: اتصل بأهلهما. لأن أحدهما توفي، والآخر حالته خطيرة.
الخبر كان قويًا عليه، وقع على الأرض أقبل عليه البقية، نهض والدموع منهمرة من عينيه. وهو يصرخ مات (محمد). مات. مات.
جمال، جمال، يا جمال، أين سرحت؟ (عبد العزيز) ينادي أخاه في السيارة. لقد وصلنا المستشفى.
ينتبه (جمال) ويرفع رأسه وكأنه يخرج من حلم مزعج. نعم يا (أخي) لقد سرحت قليلًا. هيا لنذهب.
كل هذه الأحداث مرت سريعًا في خاطرة جمال قبل أن يصل للمستشفى. مرت الأيام والشهور. يتعافى (جمال) ويستطيع المشي ولكن بصعوبة. مشى جمال ولكن بنفسية منكسرة متحطمة. واضح عليه الانكسار والخوف.
لا يستطيع أن ينسى تلك الحادثة الأليمة.. ولا تفارق مخيلته صورة محمد في السيارة.
حاول الأهل والأصدقاء جاهدين مساعدته للخروج من هذه العزلة والحزن والكآبة. ولكن لا يستقبلهم ولا يستمع لهم ولا يتجاوب معهم. يخشى الخروج من المنزل.
مرت سنة وهو على هذه الحال. والأهل والأصدقاء يحاولون إخراجه من هذا الحزن.
نصح الأطباء أهله بأن يأخذوا (جمال) في سفر إلى إحدى الدول للاسترخاء. لعله ينسى شيئًا من الحادثة، وتتحسن حالته.
رفض (جمال) فكرة السفر. حاولوا إقناعه. ولكن دون جدوى. أمه وأبوه قلقان عليه. وأخوه (عبد العزيز) دائمًا يجلس معه ويتحدث إليه. يحاول أن يساعد أخاه ويخفف عنه ألمه. الأصدقاء. لم ينسوه. ففي كل يوم أو بعض الأيام في الأسبوع يزورونه في المنزل. ولكن (جمال) نادرًا ما يستقبلهم.
لم ييأسوا من المناوبة على زيارته أو الاتصال ببيته والسؤال عنه. نعم. هكذا هم الأصدقاء الأوفياء ففي مثل هذه الظروف الصعبة التي تمر على صديقهم (جمال) لم يتخلوا عنه. حتى تمكنوا من الحفاظ على صديقهم واستعادته.
جمال يتحسن ويستعيد عافيته. وتتحسن حالته النفسية. ولكن حالة الخوف من ركوب السيارات تسيطر عليه. وأصبح لديه فوبيا من ركوبها. وفي إحدى المناسبات (عيد الفطر المبارك) من العام الثاني للحادثة. اجتمع الأصدقاء في بيت (جمال). جلسوا معه على مائدة الغذاء. الأجواء جميلة، وحالة من الفرح والسرور بدت على عائلة (جمال) بسبب تحسن حالته. أخذوا يتبادلون الأحاديث والذكريات الجميلة بعيدًا عن تلك الحادثة المؤلمة. وأخيرًا (جمال) يبتسم. فرح الأصدقاء. وقال أحدهم: انظروا ما أجمل أسنان (جمال) ناصعة البياض، فضحك الجميع.
ينظر (جمال) إلى أصدقائه وعيناه تدمعان. خاف الأصدقاء. جمال. ما بك؟ أتشعر بشيء؟
جمال: لا، لا، ولكنها دموع الفرح. الحمد لله تعالى على كل شيء. الحمد لله على أني أملك أصدقاء مثلكم. أشكركم جميعًا على وقفتكم معي. لن أنسى لكم هذا الجميل طيلة حياتي. وأعتذر عن كل تصرف صدر مني.
الأصدقاء: لا شكر على واجب. فأنت صديقنا ولن نتخلى عنك. ونحن معك. ونتمنى أن تعود كما كنت. وأفضل من ذلك.
ومع مرور الوقت. تخطى جمال هذه المحنة. والصدمة النفسية بسلام. وعاد لأصدقائه وعمله. وبقي يخاف من السرعة بالسيارات. ولكن اتخذ قرارًا في حياته كلها وهو ألا يقبل أي تحد مهما كان كبيرًا أو صغيرًا. حفاظًا على سلامته وسلامة الآخرين. هذه هي نهاية التحديات المجنونة، لحظة حماس، ولحظة نشوة، ولحظة إثبات من هو الأقوى، التفكير بالمخاطر يغيب في تلك اللحظات. معظمها ينتهي بألم وحزن!