آهة ألم في ذكرى الأربعين لرحيل العلامة الشيخ عباس المحروس

إن الله سبحانه قد ادّخر للمؤمنين الصالحين النعم التي لا تنضب ولا تزول {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، صدق الله العلي العظيم.

لقد كُتب وقيل الكثير في حق العلامة الشيخ عباس المحروس – أعلى الله مقامه – ومن الصعب عليّ الآن أن أتي بجديد حول الذكرى المفجعة والحزينة وهي ذكرى الأربعين، وكل الذي أطمح إليه في هذه المناسبة هو أن أساهم على الأقل بآهة ألم أضمها إلى كل آهات الذين تألموا ويتألمون لفقد عزيز، ترى بماذا نحيي ذكرى الراحل؟ فأي شيء له قليل، نظراً لضخامة الإرث الذي تركه لنا المرحوم سماحة العلامة الشيخ عباس ( أعلى الله مقامه).

في ذكرى الأربعين نقف وقفة تأمل إلى ذلك اليوم الذي رحل فيه فقيد القطيف، والذي أوقع إيلاماً في النفوس، وألهب المشاعر وانفجرت العيون كالطوفان ناراً ودموعاً، وارتسمت علامات الحزن والألم، وقسوة الفراق على وجوه المحبين، غادرنا في غمضة عين وترك جرحاً غائراً لم تقو الأيام على التئامه، أربعون يوماً والقلب ما زال يبكي، نعم أربعون يوماً ولوعة الفراق مرت كأنها الدهر، فارقتنا يا أبا فاضل مسرعاً إلى دار الخلود، ويا له من فراق يدمي القلب والعين والفؤاد، لحظات صعبة وحسرة مريرة، لقد سلمت نفسك إلى قاهر العباد تكبلك غفوة أبدية لا رجعة فيها، أما وقد رحلت الآن أيها الشيخ الجليل عن عالمنا إلى عالم لم يعد فيه رجاء عودة إلا رحمة الله وعنايته ولطفه، فَنمْ هانئاً في رحاب الله بنعمة الولاية وخدمة سادتك المعصومين (عليهم السلام)، نعم لقد تسلحت بسلاح الإيمان والثبات على ولاية الأطهار، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.

إنها يا أحبائي الكرام كانت أياما عصيبة مرت بنا، أصِبْنا بالحزن الشديد وبلاءً عظيمًا، فقطيف الولاية اتشحت بثياب سود، وعلت سماءها غمامة سوداء كئيبة، لقد فقدت مؤمناً صالحاً عالماً فقيهاً تقياً مفكراً خطيباً مبدعاً، يا لها من خسارة رحيل العلامة الكبير ومحراب المسجد والمنبر الحسيني إلى الرفيق الأعلى ومستقر الرحمة، رحل عاشق أهل البيت (عليهم السلام) عن الدنيا وخلّف وراءه موروثاً ثقافياً وفكرياً وعلوماً دينية ومعارف إنسانية تستفيد منها الساحة العلمية والخطابية، قضى طوال سنين عمره أميناً وفياً لفكره العقائدي ورسالته الإيمانية، مارس النصح والإرشاد والتدريس، شكّلَ مدرسة قائمة بذاتها ونهجاً متميزاً على منبر الخطابة، لقد تتلمذ على يديه الكثير من طلاب العلوم الدينية، ما أصعب فراقك يا شيخ، لقد كنت ملاكًا هادئًا تشع نوراً وجمالاً، لطيفاً، متعاطفاً، وقلباً نابضاً بالحب والتسامح والصفاء، رحلت وفارقت الأهل والأحباب، وخلّفت لهم الوحشة والحسرات، ولوعة واكتئابًا، قضيت عمرك في العمل والإصلاح، وحملت رسالة الإيمان نقية طاهرة، وكذلك جرت على يديك الخير والبركات والتسديد، تمثل في الإحسان إلى الناس ومساعدتهم وقضاء حوائجهم، نعم يا أبا فاضل هكذا أنت دائماً، بالعلم والشرف والرفعة والكرامة والمكانة والطيبة والكلمات الصادقة، صراط محبة وجسر ثقة دائمة، هي حصيلة هائلة من العلاقات الشخصية والاجتماعية والإنسانية الواسعة بمختلف فئات الناس، وخير شاهد على ذلك هي تلك الحشود الغفيرة التي تقاطرت لتشييعك وحضور مراسم عزائك حزناً وألماً وأسى، بدلتُم الكثير واستحقيتُم التقدير والتكريم.

لقد اعتدنا من قطيف الحب والولاء مثل هذا الزّخم الجماهيري الكبير المشحون حباً وشوقاً عندما يكون الراحل فقيهًل وعالمًا ومفكرًا، وله قدر كبير من الرفعة والمكانة في قلوب الناس، لقد كرّست حياتك في كل ما يعود على الناس بالخير، وأفنيت عمركَ في خدمة شعائر الحسين والعترة الطاهرة (عليهم السلام)، تسلقت المنابر لإلقاء الخطب الحسينية ومراثي أهل البيت (عليهم السلام)، وأخذت موقعاً وحضوراً مميزاً في الساحة الدينية والاجتماعية، فكر وإبداع ووهج مميز في الحضور المنبري، فطوبى لمن كان سيد الشهداء شفيعه وقائده إلى الجنة، ارتقت روحك إلى مدارج الكمال، فقرّت عيناك شيخنا الجليل فأنت في مستقر دار عز الملكوت وبين يدي رحمته ومغفرته.

حقيقة خسرت القطيف وخسرت الساحة العلمية علمًا من أعلامها، واحداً من رموز الإبداع والحضور المميز، وخسرت الساحة الخطابية عموداً من أعمدتها ورمزاً من رموزها، فقد كان لنبرة صوته أو رخامته جاذبية تستثير مشاعر الموالين وتوقد عشقهم الحسيني.

كان رحمه الله عالماً ربانياً ورث الإيمان والتقوى والحب والولاء من أسرته المتدينة الموالية لخدمة أهل البيت (عليهم السلام)، وتأثر بمصيبة الصديقة فاطمة الزهراء – أرواحنا لها الفداء – وظهر ذلك على نهجه المنبري، عاش رسالتهم وأهدافهم بكل وجدانه مما انعكس على سلوكه وسمته، وقلبه الطيب اتسع لكثير من الآمال، نعم فقدنا العلامة الشيخ المحروس سريعاً إلى الأبد، لكن هناك من سيذكره على الدوام من بنين صالحين، وبطانة من العلماء المخلصين، وسائر الأصحاب الأخيار المؤمنين الموالين، وسيكون شمعة في درب كل طالب علم، وسيظل باقيًا في ذاكرة الناس بقاء العطاء الحسيني بأحرف من نور، استقبلت العائلة الكريمة التعزية والمواساة في يوم رحيلك، وسوف تستقبله في ذكرى الأربعين ولكن.. ستظل دموعها حبيسة العين، وبكاؤها بكاء المحزونين والمنكوبين، نسأل الله عز وجل أن يتغمد العلامة الفقيه الجليل الشيخ عباس بن علي المحروس بوافر رحمته ويسكنه فسيح جنانه، والعزاء والمواساة لعائلة المحروس والسادة الخباز الفضلاء الأجلاء، وعلمائنا الأعلام ومراجعنا العظام وخطبائنا وأتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وقبل كل ذلك لمولانا وإمامنا الحاضر صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وإنّا لله وإنا إليه راجعون.



error: المحتوي محمي