قال الشاعر إبراهيم بديوي:
لله في الآفاق آيات لعل
أقلها هو ما إليه هداك
ولعل ما في النفس من آياته
عجب عجاب لو ترى عيناك
والكون مشحون بأسرار إذا
حاولت تفسيراً لها أعياك
كل ما في هذا الكون هو مظهر من مظاهر تجلي إبداع الخالق في خلقه، وكل ما توصل له العلم الحديث حتى الآن ما هو إلا ذرة في أسرار معاجز الله الكونية فيقف حينها العقل عاجزاً عن الإدراك، وبمناسبة الحديث عن الإدراك؛ أهو فعل مختص بدماغ الجمجمة أم هناك أدمغة أخرى في الجسم تُصدر القرارات وتتشارك في ذاكرة الألم؟
الفكرة التقليدية السائدة بأن العقل مسؤول عن الوعي والإدراك والقلب مضخة للدم والأمعاء والمعدة للهضم، وأن إحساس الألم العضوي في الجسم ذاكرته مخزونة في الدماغ، وأن كل إحساس الجسم بالألم والخطر ينتقل من المستقبلات العصبية الحسية في الأطراف عن طريق الناقلات العصبية للدماغ، فيُصدر الدماغ رد الفعل المناسب لتلك المشاعر ويختزن ما تبقى منها في ذاكرة الألم الموجودة في الدماغ فقط.
فهل القلب فعلاً مجرد مضخة للدم والأمعاء لعملية الهضم ليس إلا؟
اكتشف علماء طب القلب العصبي الحديث أن هناك أدمغة عصبية وظيفية أخرى في الجسم تختلف عن دماغ الجمجمة المتعارف عليه، وتبين أن هذه الأدمغة تتكون من شبكات وضفائر عصبية معقدة الوظيفة والتكوين، وتم تقسيمها لثلاثة أنواع:
دماغ الجمجمة: الإدراك التحليلي المعرفي.
دماغ القلب: الإدراك العاطفي الوجداني.
دماغ الأمعاء: الإدراك الحسي البديهي.
وبالتالي فإن القلب والأمعاء هما من المصادر الرئيسية للإدراك العاطفي والحدسي، فالمظاهر العقلية تُنسب لدماغ الجمجمة، بينما المظاهر الروحية الوجدانية تُنسب للقلب، والبديهية تُنسب للأمعاء، حيث إنها أول من يتأثر بتلك المظاهر في الجسم، وقد تظهر الآلام نتيجة لذلك.
يتكون القلب من شبكة من الخلايا العصبية الجوهرية المعقدة والتي تفوق الـ40000 خلية عصبية تتركز داخل العقد القلبية وهي قابلة للتكيف، وقد أشار العالم أرمور إلى أن القلب له القدرة على التعلم وجمع المعلومات واستشعارها، كما أن له ذاكرة خاصة بالآلام وتخزين المعلومات تختلف عن نظيرتها في الدماغ، و له المقدرة على إفراز الهرمونات للجسم كما يعمل الدماغ تماماً، كما ذُهل العلماء من نتيجة التخطيط الكهربائي للقلب الذي كان أكبر بمئة مره من التخطيط الكهربائي للدماغ.
ويشارك مركز القلب تلك المعلومات ومشاعر الألم مع الدماغ عن طريق وصلات عصبية ثنائية الطرف تنتشر من القلب للدماغ، ووُجد أن لها تأثيراً في الإدراك واتخاذ القرارات والتنظيم المعرفي ونقل مشاعر الآلام كدماغ الجمجمة تماماً، وبهذا فإن القلب يعمل بذاكرة ومراكز عصبية مستقلة تماماً عن دماغ الجمجمة، وتم تصنيفه بـ “دماغ القلب”.
وعلى الرغم من تشابه الخلايا العصبية الموجودة في القلب مع خلايا الدماغ، إلا أنه وُجد أن مجموعة من خلايا القلب لها طبيعة رقيقة كالزجاج قد تتكسر وتتناثر عند تخزين المواقف المحزنة في ذاكرة القلب.
وما توصل له العلم الحديث من خصائص خلايا القلب قد أشار له أمير البلغاء علي بن أبي طالب قبل ما يقارب 1400 عام في البيت التالي:
وَاحْرَصْ على حِفْظِ القُلُوْبِ مِنَ الأَذَى فَرُجُوعِهَا بَعْدَ التَنَافُرِ يَصْعُب
إِنَّ القُلوبَ إِذَا تَنَافَرَ ودُّهَا شِبْهُ الزُجَاجَةِ كَسْرُهَا لا يُشْعَب
وبهذا فإن لدماغ القلب أهمية في اتخاذ القرارات البشرية ومشاعر الألم كدماغ الجمجمة، ولكن أين الأمعاء من كل ذلك؟
تتكون الأمعاء من شبكة عصبية معوية تتخطى الـ500 مليون خلية عصبية، وقد كشف العالم ماير في دراسته البحثية “مشاعر القناة الهضمية” أن الجهاز الهضمي لا يقوم فقط بعمليات الهضم الحيوية، وإنما يتكون من ضفيرة عصبية معقدة تتصل مع الدماغ بنظام ثنائي الاتجاه للتحكم في بعض المشاعر الإدراكية الحدسية للدماغ، وهي تعمل بنظام إدراكي مستقل عن دماغ الجمجمة في اتخاذ القرارات ومشاعر الألم.
وأثبت ذلك العالم كلارير في تجربته العلمية عندما قاس مستوى القلق والخوف والقرارات البديهية لدى الفئران بعد أن تم تقطيع المسارات العصبية المعوية، حيث فقدت حينها الفئران قدرتها على الاستجابة الفطرية للخوف والتعلم والتكيف، وتم في تجربة أخرى قياس النشاط الكهربائي للمعدة عند عمل الاختبارات الحسابية لدى بعض الأشخاص، فوُجد أن هناك إجهاداً نفسياً فيسيولوجياً على الأمعاء، وهذا ما يفسر حدوث بعض التلبكات المعوية أثناء تقديم الامتحانات.
ونتيجة لذلك، فإن النظام القلبي والهضمي متورطان في وظائف بشرية إدراكية عالية المستوى معقدة الوظيفة والكيفية كالدماغ تماماً، فهي تلك الأدمغة البشرية المصغرة التي كانت مجهولة لفترة من الزمن، وبذلك فإن حلول المشاكل التقنية تتطلب منطق العقل، وحلول مشاكل التكيف تتطلب دماغ الأمعاء، بينما تغيير معتقدات الناس وعاداتهم يتطلب دماغ القلب.
ونلخص كل هذا الإعجاز العلمي بالإعجاز القرآني في قوله تعالى (لَهُم قٌلُوبٌ يَعقِلونَ بهَا)، فالقلب ما هو إلا دماغ يعقل ويتشارك الإدراك مع دماغ الجمجمة.
فهل علمنا الآن لماذا مشاكل المعدة والقولون العصبي قد تسبب آلام الظهر؟ ولم الكلمة القاسية قد تسبب الذبحة الصدرية؟
اختصاصي أول عظام في العلاج الفيزيائي هبه الحبيب