دور الإمام جعفر الصادق في تمتين العلاقات مع الآخر

أرسى الإسلام قواعد وأسساً للتعايش مع الآخر في جميع الأحوال والأزمان والأماكن، بما يضمن تفاعلهم مع الآخر وتواصلهم معه دون تفريط في الثوابت الإسلامية.

ويظل الرسول الأكرم (ص) الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة في كل شيء، مصداقاً لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ}. وقد ترك رسول الله (ص) لنا نماذج عديدة للتعايش، وهي صالحة للمسلم في كل عصر بحسب مقتضيات الحال والمكان والزمان.

وقد برهنت -بحسب قول الشهيد محمد باقر الصدر- “عليها الأحداث بعد وفاه القائد الرسول (ص)، وتجلّت عبر نصف قرن أو أقل من خلال ممارسة جيل المهاجرين والأنصار”.

وسار أهل البيت (ع) على هذا النهج، بل وتفوقوا فيه بشكل منقطع النظير، بحيث لا نجد له مثالاً عند أتباعهم في الوقت الحاضر.

ومن أعلاهم شأناً الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع)، الذي أعطى للإمامة امتدادهـا ورحابتها في الواقع الإسلامي كله، فكان يلتقي ويعلّم مَـن كان يؤمن بإمامته ومَن كان لا يؤمن بها، وقد التقى الجميع على أنه الـذي يحمل علم رسول الله (ص) وعلم أجداده من خلال كل هذا الينبوع الصافي الذي كان يغترف منه، وأنـه الصادق الذي لا يمكن لأحد أن يشك في صدقه، وأنـه الإنسان الذي انفتحت روحانيته المطلقة على الله تعالى، فكان الناس -على مختلف مشاربهم- يرون فيه روحاً تفيض عليهم بكل معاني الروحانية حتى يخشعوا أمامه.

مدرسة الإمام العلمية:
شمخت مدرسة الإمام جعفر الصادق (ع) بنفسها وسطع نورها حتى شغلت العيون والأفكار عما سواه فكأنك لا تكاد ترى شيئاً سواها آنذاك؛ بسبب أنَّ مؤسسها شخصية أجمعت العلماء على سعة علمه ومتانة دليله وشدة ورعه وتقواه وزهده.

وكانت تتصف بالشمولية، فهي لا تقتصر على دراسة الفقه والحديث كما هو المتعارف في سائر المدارس بل كان فيها الفقه والحديث والتفسير وعلوم القرآن وعلم الكلام وفنون العربية بل تجاوزت ذلك لتشمل بعض العلوم الإنسانية.

ولأهميتها توافد عليها طلاب العلم من أقطار العالم الإسلامي٫ ووصل عدد روادها إلى ما يقرب من ٤٠٠٠ تلميذ، هم أقرب بكتيبة جيش كما يصفها جوزيف هاشم.

وكان لهذا التنوع غايته في إرساء مبادئ التعايش بين الطوائف والأديان طيلة قرون طويلة.

وتعتبر هذه المدارس الفكرية مظهراً من مظاهر قبول الآخر والانفتاح عليه؛ حيث كان أتباع الأديان المختلفة يدرسون على أيدي أتباع أديان أخرى، فنحن نقرأ أن المسيحي يحيى بن عدي، الذي وصفه ابن أبي أصيبعة، بأنه كان مترجما وناسخا ومنطقيا، ومعه المسيحي متى بن يونس، الذي انتهت إليه رئاسة المناطقة في عصره، كما تذكر المصادر، يدرسان على يد الفيلسوف المسلم أبي نصر الفارابي، وكانت ليحيى بن عدي حلقة درس يحضرها التوحيدي وغيره.

وكتب الرجال والتراجم تشهد تقدم جملة وافرة من تلامذة الإمام (ع) في سوح المعرفة، من أمثال: مالك بن أنس، وأبو حنيفة، وزرارة، وممد بن مسلم، وبريد العجلي، وأبان بن تغلب، وهشام بن الحكم، ومحمد المعروف بمؤمن الطاق وغيرهم ممن أذعنت الساحة العلمية لهم وأشادت بفضلهم، وأصبحوا حججاً عند علماء المذاهب والأديان.

وقد خرجت توصيات منه (ع) تشدد على أهمية احترام الآخر، مهما كان انتماؤه.. يقول الإمام الصاد (ع): “مَا أَيْسَرَ مَا رَضِيَ بِهِ النَّاسُ عَنْكُمْ كُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْهُمْ”.. وكأنّه يقول: لا تسبّوا ولا تلعنوا، حتى تستطيعوا أن تنفتحوا على واقعكم الاجتماعي من خلال هذا الخط المستقيم فيكم.

وفي الصحيح عن حَنَان بن سَدِير، قال: قَالَ أَبُو الصَّبَّاحِ الْكِنَانِيُّ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (ع): مَا نَلْقَى مِنَ النَّاسِ فِيكَ!!
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): “وَمَا الَّذِي تَلْقَى مِنَ النَّاسِ فِيَّ؟!”.
فَقَالَ: لَا يَزَالُ يَكُونُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرَّجُلِ الْكَلَامُ، فَيَقُولُ: جَعْفَرِيٌّ خَبِيثٌ!!
فَقَالَ (ع): “يُعَيِّرُكُمُ النَّاسُ بِي؟!”.
فَقَالَ لَهُ أَبُو الصَّبَّاحِ: نَعَمْ.
فَقَالَ (ع): “مَا أَقَلَّ وَاللهِ مَنْ يَتَّبِعُ جَعْفَراً مِنْكُمْ! إِنَّمَا أَصْحَابِي مَنِ اشْتَدَّ وَرَعُهُ، وَعَمِلَ لِخَالِقِهِ، وَرَجَا ثَوَابَهُ؛ فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابِي”.

وحقيقة الحال إنّ عملية التسامح ليس فعلاً بإرادة الفرد، إنّما هو تراكم لنشأة القيم في المجتمعات لأنها منظومة متكاملة، فلكل جماعة بشرية منظومتها الفكرية والعقدية الخاصة عن التسامح، مما يجعل الأمر جزءاً من معاناة الأمم نفسها، لذلك يبدو التسامح قيمة نسبية ومطلقة في آن واحد، فهي قيمة نسبية لأنها تختلف من أمة لأخرى ومن دين لآخر، وهي مُطلقة داخل المنظومة الثقافية الواحدة.

يقول عمرو بن نعمان الْجُعْفِيِّ: كَانَ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) صَدِيقٌ لَا يَكَادُ يُفَارِقُهُ إِذَا ذَهَبَ مَكَاناً، فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي مَعَهُ فِي الْحَذَّاءِينَ، وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ سِنْدِيٌّ يَمْشِي خَلْفَهُمَا، إِذَا الْتَفَتَ الرَّجُلُ يُرِيدُ غُلَامَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يَرَهُ، فَلَمَّا نَظَرَ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ: يَا ابْنَ الْفَاعِلَةِ! أَيْنَ كُنْتَ؟!!
فَرَفَعَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع) يَدَهُ فَصَكَّ بِهَا جَبْهَةَ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: “سُبْحَانَ اللهِ!! تَقْذِفُ أُمَّهُ، قَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّ لَكَ وَرَعاً، فَإِذَا لَيْسَ لَكَ وَرَعٌ!”.
فَقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ أُمَّهُ سِنْدِيَّةٌ مُشْرِكَةٌ.
فَقَالَ (ع): “أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ نِكَاحاً تَنَحَّ عَنِّي”.. فَمَا رَأَيْتُهُ يَمْشِي مَعَهُ حَتَّى فَرَّقَ الْمَوْتُ بَيْنَهُمَا.

ما هو السبيل لتحصين مجتمعاتنا من روح الكراهية؟
١. تأكيد القيم الأخلاقية التي تنفتح على الإنسان من أجل استثارة عناصر إنسانيته بالرحمة، ثم الإيحاء له بالمحبة للعناصر الإيجابية في شخصيته بحيث يتوجه الإحساس إلى الجانب المضيء من الصورة بدلاً من الاستغراق في الجانب المظلم منها.

٢ . تثقيف الأمة بتلك القيم الأخلاقية الإسلامية، وخصوصاً التقوى والأمانة عند اختيار نوعية الكلمات والأساليب، والأخذ بأسباب التأمل بما يسمع أو يقرأ قبل اتخاذ الموقف السلبي أو الإيجابي، لأنّ المشكلة التي يواجهها المجتمع الإسلامي، تتمثل في غلبة العاطفة والانفعال على كيانه، والتي يستغلها البعض من أجل إثارة الأجواء ضد المفكِّرين والمصلحين.

٣ . الوعي بأنّ دين ومذهب كلِّ إنسان يجب أن يفترك لقناعة وضمير كل إنسان، وأنه حق كل إنسان أن يمارسه، كما يمليه عليه ضمير هذا الحق، هو في طبيعته حق لا يمكن التصرف به، وهو حق غير قابل للتصرف.

وهناك الكثير من الشواهد التي نحاول أن نستدل بها على وجود علاقة طبيعية بين أتباع المذاهب والأديان المختلفة في قرون خلت.. وقبل عرض هذه الأمثلة من المفيد أن نقول إنه على الرغم من تنوع مكونات المجتمع العربي وأديانه، فإن أتباع الأديان، لم يفضلوا العيش في أماكن معزولة، بل كانوا يعيشون بحرية وانفتاح على الآخرين.. وفي أجواء غير منغلقة على سكانها، ولا ممنوعة على الذين يعيشون خارجها. ولذلك أصبح التفاعل مع الآخر، والألفة بينه هي السمة السائدة بين الناس.

مثال ١: لقد كان عبد الله بن يزيد الفزاري من متكلمي الإباضية المشهورين في القرن الثاني الهجري. وأصله من مدينة الكوفة في العراق، وأول شيء تذكره مصادر التاريخ عنه أنه كان شريكاً لهشام بن الحكم المتكلم الشيعي في تجارة الخزّ، فكان لهما حانوت بالكوفة حيث اجتمع أصحاب عبد الله الإباضيون إليه ليسمعوا دروسه بينما اجتمع أصحاب هشام بن الحكم من الشيعة لسماع دروس هشام كذلك. وقد استظرف الجاحظ وغيره هذه الشراكة والصحبة بين عالم إباضي وعالم شيعي.

مثال ٢ : كان طلحة بن مصرف وزبيد اليامي متواخيين، وكان طلحة عثمانياً وكان زبيد علوياً، وكان طلحة يحرِّم النبيذَ وكان زيد يشرب، ومات طلحة فأوصى إلى زبيد.

مثال ٣: كان عبد الله بن إدريس الأودي وعبثر بن القاسم أبو زبيد الزبيدي متواخيين؛ وكان عبد الله بن إدريس عثمانياً وكان عبثر علوياً، وكان ابن إدريس يحرِّم النبيذ وكان عبثر يشربه، ومات عبثر فقام ابن إدريس يسعى في دَينٍ عليه حتى قضاه.

مثال ٤: عُرف عن إسحاق الصابي بصداقته الوطيدة، مع اثنين من شخصيات المسلمين المعروفة، كما يذكر ياقوت الحموي في معجم الأدباء، فكان بين الصابي وبين الصاحب إسماعيل بن عباد الوزير، مراسلات ومواصلات، وكذلك بينه وبين الشريف الرضي مودة ومكاتبات. ثم يضيف ياقوت: “وكان هذا مع اختلاف الملل وتباين النحل”. وكان الرضي قد رثا أبا اسحق بقصيدة عصماء عندما توفي، كان مطلعها:
أعلمت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياءُ النادي
وكان من أبياتها المهمة:
إن لم تكن من أسرتي وعشيرتي فلأنت أعلقهم يداً بودادي

أيها الأحبة..
إن كنت تفتخر بانتمائك لمذهب الإمام جعفر الصادق (ع)، فعلينا أن تعي أنَّ التشيع ليس كلمة، وليس عاطفة، ولكن التشيع هو ما قاله الإمام (ع):

“فَوَ اللهِ مَا شِيعَتُنَا إِلا مَنِ اتَّقَى اللهَ وَأَطَاعَهُ، وَمَا كَانُوا يُعْرَفُونَ يَا جَابِرُ إِلا بِالتَّوَاضُعِ وَالتَّخَشُّعِ وَالأَمَانَةِ وَكَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّـهِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلاةِ وَالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ وَالتَّعَاهُدِ لِلْجِيرَانِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَأَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْغَارِمِينَ وَالأَيْتَامِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَتِلاوَةِ الْقُرْآنِ وَكَفِّ الأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ إِلا مِنْ خَيْرٍ وَكَانُوا أُمَنَاءَ عَشَائِرِهِمْ فِي الأَشْيَاءِ”.


error: المحتوي محمي