عندما ماتت أمي أصبحت من الزوار المستمرين لمقبرة تاروت. أول ما يلفت نظر الزائر لهذه المقبرة التي يفوق عمرها ١٠٠ عام هو جدرانها الجميلة التي زُيّنت بمخطوطات رائعة وألوان زاهية لكنها لم تجمل قبح الموت ولم تحلِّ مر الفراق!
رياحين وورود مزروعة هنا وهناك لكنها لم تغير رائحة الموت الكريهة أبدًا. الشارع ضيق كضيق القبور التي دفنا فيها أحبابنا. لا أعرف أين أوقف سيارتي فالمكان مكتظ بالسيارات لدرجة الاختناق؟!
لاحظت أنهم يدفنون ميتًا جديدًا في منطقة مزدحمة جدًا بالقبور لعلهم يريدون دفن الميت إلى جوار أهله فعند دفن الميت لا يوجد أي تخطيط أو قواعد يلتزم بها لتحديد مكان القبر الجديد. فأهالي الموتى يختارون مكان دفن موتاهم. ادفنوه إلى جوار جده أو ادفنها إلى جوار زوجها حتى لو كان المكان مكتظًا بالقبور والدفان موظف لا يرد لهم طلبًا.
عند دخول المقبرة تستقبلك أسطل سوداء قبيحة مخصصة للبناء لا أدري ماذا تفعل في المقبرة، وأول ما يلفت الانتباه هو تدهور بنيتها التحتية والقبور المتناثرة بعشوائية شديدة؛ فممراتها قليلة جدًا ومتهالكة. نمشي فوق القبور حتى نصل إلى قبور أهلنا. أصبح الموتى فوق بعضهم بعضًا وصرنا نتخبط يمينًا وشمالًا بحثًا عن قبور موتانا!
وكم مرة سمعنا عن أحد زوار المقبرة قد زلقت قدمه داخل أحد القبور المهدمة مما سبب إصابات وكسورًا لبعض الزوار ناهيك عن التعب النفسي. أجلس فوق قبر مجاور لقبر أمي حتى يتسنى لي أن أقرأ بعض الآيات فأشعر بالانزعاج لأنني حرفيًا أجلس فوق المرحوم! لم أر هذه العشوائية في قبور المسيحيين والديانات الأخرى فمقابرهم كأنها قطعة من الجنة أما مقبرتنا فكأنما القيامة قد قامت {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار: ٤].
نحن كمسلمين أولى بالتنظيم من غيرنا فقد أمرنا الله تعالي بالنظام والتنسيق فى عدة مواقع {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات: ١]، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: ٢٢].
في هذا المكان نودع أجسادنا ونلاقي ربنا جل وعلا، يا له من حدث عظيم ألا يستحق أن يكون في مكان جميل؟ كلنا سنأتي لهذه الدار يومًا ما فلتكن دارنا الأخيرة جميلة، لا أريد لأحد أن يجلس أو يدوس فوق قبري هذا شيء غير حضاري.
تحتاج مقبرة تاروت إلى ترميم الممرات الحالية وإضافة ممرات جديدة جانبية كما أنه من الضروري ترقيم القبور بطريقة مدروسة وتوحيد الشواهد وإطارات القبور فلا فرق بين غني وفقير في هذا المكان. ومن الضروري إزالة الأقمشة المربوطة فوق القبور والتي تتشبع بالغبار وتزيد المكان بشاعة. وتوفير كشكات منظمة وجميلة للباعة سواء كان ماء ورد أو شتلات ريحان. ولا ننسى أهمية توفير مواقف أكثر للزائرين وتوسيع الشارع المؤدي للمقبرة. كما أن تشجير المقبرة من جهة مختصة وتزيينها سيجعلها روضة غناء بدلًا من أن تكون علامة من علامات الساعة!
لقد آن لهذه العشوائية أن تتوقف وأن نحترم قدسية الميت ونتحضر حتى مع الموت.