الرباط المقدّس

يكاد يكون انتشار الطلاق في مجتمعنا المعاصر ظاهرة عامة تستوجب من الجميع – أفراد ولجان وجمعيات خيرية – الالتفات إليها، والسعي الحثيث لإيجاد الحلول المناسبة لإيقافها، وإنشاء مجتمع إنساني مترابط تسوده المحبة والسعادة.

لا يستطيع أحد حصر أسباب الطلاق لأن كل حالة طلاق لها أسبابها الخاصة بها دون سواها؛ غير أن هناك أسبابًا مشتركة أو عامة أحببت الإشارة إليها ولو بشكل مختصر؛ لأن المعروف على قدر المعرفة.

للطلاق عدة أسباب منها:

ضياع مفهوم الزواج والجهل بالحقوق
إن أقدس صرح في الإسلام هو الزواج، وهو الوسيلة المثلى لضمان استمرار النسل البشري الطاهر الحامل لقيم السماء والمؤدي للرسالة، وبه يتحقق السلام الداخلي للإنسان بجعل الطرف الآخر سكنًا ووطنًا، وبه يتم التراحم والتكافل والتواصل والتعارف، وبه تتحقق السعادة والأنس وتحقيق رغبات الفطرة السليمة، وبه يسعى الإنسان للوصول للكمال الحياتي في مختلف الجوانب.

إن معرفة جوهر الزواج ورسالته؛ تقتضي تقديسه وجعل أطرافه كـ سِوَر القرآن الكريم مقامًا وتعاملًا واعتقادًا. إن معرفة الطرفين بواجباتهما تجاه الآخر يجعل الحياة أكثر إنسانية، وأكمل وفاقًا؛ لأن الجهل بكثير من الواجبات والحقوق يؤدي تلقائيًا للوقوع في الاشتباه في كثير من الأحيان.

أنا شخصيًا لا أميل إلى جعل الحقوق والواجبات أساس التعامل؛ وإنما أراها وسيلة للقيام بما هو أكمل وأجمل، وبمعنى آخر: إن روح الواجب وما وراءه تكون أجمل من القيام بالواجب نفسه. وعليه؛ فإن الدورات التأهيلية للزواج، وقراءة الكتب المتعلقة بذلك قبل الإقدام؛ ضرورة ملحة في وقتنا الحاضر لما تحمله من فوائد جمّة للطرفين فيما بعد.

إن المعرفة المسبقة تقتضي معرفة كيفية التعامل مع الخلل في حال حدوثه بأيسر السبل وأقل الأضرار، كما تؤدي إلى اجتناب مواطن الاختلاف من خلال الاستفادة من تجارب الآخرين، فضلًا عن أنها تزيد من مدى مرونة العقول وتكيفها مع المستجدات.

فقدان الموجّه
إن وجود القدوة الحسنة للأبناء يجعل أمر إدارة الأسرة أكثر انسيابية. إن القدوة الحسنة تفرض تلقائيًا احترامها في أسرتها، والاحترام بدوره يغرس الحب الذي يجعل الامتثال لا إراديًا عند أغلب الناس. القدوة الحسنة تعني صلاح الإنسان في ذاته، وطهارته في قلبه، وحسن أخلاقه، ورقي أسلوبه وذوقه، مع وجود الحكمة البالغة وسعة الصدر والموضوعية وقوة الشخصية وفراسة العقل ولو بنسب معينة. وهذه النماذج موجودة في المجتمعات المعاصرة لكنها غير مفعّلة. إن القدوة الحسنة تؤثر في أهلها تأثيرًا بالغًا، وتحاول تذليل العقبات، وتسوية المعوج، وترطيب النفوس، وتلاقح الأفكار لتنسجم الأرواح فيما بعد. وقد كان هؤلاء في العقود القديمة أكثر فاعلية من العقود المتأخرة لاعتبارات متعددة فرضتها ظروف الحياة المعاصرة. وهنا أرى أن الأسرة التي تُضعِف من دور والدها الكفء أو تهمشه؛ تقع ضحية لهواها، وتدفع بذلك أثمانًا باهظة لا عدّ لها ولا حد.

إن احترام دور العقلاء المنصفين من أهل الحل والعقد أمرٌ تفرضه المروءة إن لم يفرضه الدين والتربية، كما أن تكبيل أدوارهم ساهم مساهمة واضحة في كثرة الاختلافات وتشتت الشمل والواقع لهُ ألف شاهد وشهيد.

الانحياز الأُسَري
يلعب الانحياز الأُسري دورًا رئيسًا في هدم الكثير من العلاقات الزوجية المقدسة تحت ظلال النخوة والقرابة والحب الخالص. وبعبارة أخرى: إن انحياز أسرة الزوج له وانحياز أسرة الزوجة لها يزيد من فجوة الخلاف ويعمّق الهوّة ويصعد اللهب. يسعى كل طرف من الزوجين لإثبات أحقيته، وأنه المظلوم والمحتاج للنصرة والعون والوقفة الصادقة؛ ليكون خصمًا عنيدًا للطرف الآخر، ويعتقد أن وجود أسرته حوله يمثل السند والحمى لرد الاعتبار عند الحاجة. الأسرة الواعية هي التي لا تسمح بالتدخل في أي علاقة زوجية، ولكنها قد تسمح بذلك عند الضرورة الملحّة بعد أن تستمع للطرفين بموضوعية لتحكم بالعدل والانصاف.

إن الانحياز العاطفي غير المدروس يساهم في تمسك الأطراف بمواقفها، وعدم التنازل، والسعي الحثيث للغلبة والانتصار والزهو وإثبات الذات والأنا. لا تكونوا وعاء الزيت الذي يُسكَب على القلوب ليحرقها ويحرق من فيها تحت ذريعة الواجب الرحمي. كونوا الموجة الواعي، والقدوة الحسنة، والقاضي العادل إذا اضطررتم يومًا للتدخل في حياة أولادكم وبناتكم، أو إخوانكم وأخواتكم، أو آبائكم وأمهاتكم.

الحرية المغلّفة:
إن الاستقلالية التي تسعى لها المرأة تحت غطاء الحرية والمرونة ووجوب الارتقاء والتحضر الفكري بما يتناغم والحياة المعاصرة؛ جعلها تقع في المحظور من حيث لا تدري في أغلب الأحوال. أصبحت تتأثر بالمسموع والمقروء والمرئي المنمّق، والحسن المعالم، والقادم من ثقافات أخرى بعيدة عن الإسلام في عقلها الباطن حتى أصبح لديها من المسلمات التي لا نقاش فيها؛ لأن النقاش في المسلّمات عبث.

إن وجود رفيقات يحملن هذه الثقافة المستوردة من داخل الأسرة أو خارجها؛ يساهم في تمسّك هذه النسوة بآرائهن وجعلها آراءً تقدمية للعقول النوعية فحسب. ولذلك تراها تقع في الاشتباه والمحظور ولا ترعى لذلك حرمة أو بالًا، بل وتنشر هذه الثقافة ما أمكنها ذلك. هؤلاء النسوة تناولن السم الممزوج بالعسل، وحسبن السراب ماء، ولكنهنّ في الغالب يفقن ولكن بعد فوات الأوان.

من هنا كان لزامًا على الوالدين إحكام التربية، وتحصين الأبناء، ومتابعة وسائل التواصل، وتوجيه البنات خصوصًا نحو الكتب القيمة التي تحمل الثقافة التنويرية المنسجمة مع الدين المحمدي الأصيل والبعيدة عن التزمت والانغلاق. كثير من الفتيات يحسبن العالم الافتراضي للحياة الزوجية في المسلسلات والأفلام المدبلجة واقعًا، ويرسمن في أذهانهن هذه الحياة ليتفاجأوا بأن الواقع مغاير نتيجة اختلاف البيئة، والدين، والقيم.

أجاز البعض منهن لأنفسهن التواصل، وتكوين العلاقات، والصداقات تحت مسمى الأخوية اعتقادًا بأن ذلك يضمن حسن الاختيار؛ غير أنهنّ في الغالب يقعن فريسة للذئاب البشرية الذكورية.

نحن مع التطور الحياتي، ومع المرونة في تقبل الجديد، ومع اختلاف العادات والتقاليد حسب الظروف؛ طالما أنها لا تتعارض مع الفطرة السليمة، والأصالة، فضلًا عن الدين والخلق.

الماديات
كانت الأسرة سابقًا تتكيف مع الإيراد الخاص بمعيلها، وتعيش بقناعة تامة، وتحفظ كرامتها وكرامة رب الأسرة؛ غير أن بعض الأسر حديثًا ترغب في أن تعيش كما تعيش الطبقة المخملية أو البرجوازية حتى مع عدم الإمكان، وتجعل ذلك حقًا وواجبًا مهما كلف الأمر. وهذا بطبيعته يلقي بظلاله على التفكك الأسري لاحقًا.

إن سطحية العقول واهتمامها بالقشور على حساب الألباب؛ جعل البعض من أفراد الأسرة يركزون على الثانويات على حساب الأولويات من سلوك، وتعليم، وتربية، وأخلاق، وعطاء إنساني، ومحبة. ومن زاوية مادية أخرى نجد أن هناك حالات قليلة مارس فيها أحد الطرفين استغلال مال الآخر وحقوقه؛ جعلت بعض المتزوجين يعيشون في حذر بالغ من الزوج أو الزوجة يوازي الحذر من العدو السارق.

إن انعدام الثقة في هذا الجانب يفسد الود، ويخدش الكرامة، وبالتالي تصبح الحياة قشة في مهب الريح. نحن لا نرضى بتسليم كافة الحقوق للآخر دون اطمئنان أو ضمانة؛ ولكنّنا في الوقت نفسه ضد انتشار ثقافة التخوين وعدم الثقة. الزواج ليس شراكةً تجارية تستوجب الحذر؛ وإنما هو شراكة أرواح وأبدان قبل أن يكون شراكة أموال.

سوء الاختيار
إن أهم خطوة في حياة الإنسان في نظري هي اختيار شريك الحياة المناسب الحامل للصفات المشتركة؛ فكرًا وثقافة، ووعيًا، ومرونة، وتوجهًا، وتربية، وأخلاقًا، ودينًا.

إن تسرع البعض والموافقة دون التروي والتريث المطلوب؛ يؤدي إلى جهل الكثير من الأمور التي لم تكن في الحسبان. ينبغي التريث قبل الموافقة، وإمعان السؤال، والتدقيق في بعض الجوانب التي ينبغي السؤال عنها، والتوجه للمناسب في ذلك. فالأصالة، والتربية، والدين، والأخلاق، والثقافة، والعلم، والذوق، والطموح، والمرونة، والهدوء، والوظيفة، فضلًا عن الجمال عوامل رئيسة عند القرار والاختيار. كما أن الانسجام الروحي والبيئي والثقافي، وتقارب العادات والتقاليد ضرورة لا يستهان بها في هذا الأمر.
الزوج أو الزوجة ليس سلعة مشتراة يمكنك تغييرها، وأخذ البديل متى أردت؛ وإنما هو طرف الرباط السماوي الأقدس الذي يستوجب التضحية والفداء. إن معرفة الطرفين بذلك يستوجب العناية في الاختيار من جانب، وعدم التفريط فيه من جانب آخر.

ضعف الوازع الديني
إن جعل الدين حجرًا عثرة أمام تطلعات الناس وطموحاتهم خطأٌ محض وقع فيه بعض ذوي الحداثة من الطرفين ممن تجاسروا على أنفسهم وأسرهم بهذا الرأي الحاد، كما أن إلقاء العيوب والمساوئ على الدين نتيجة أخطاء بعض المتدينين اشتباه غير مقبول بحال؛ والمبتغى هو أن تعرف الحق لتعرف أهله حتى تعرف ممن تأخذ دينك. ثم إن دين محمد وآل محمد أكثر الأديان سماحة، ومرونة، ومراعاة، وتقديسًا للإنسان وللمرأة بشكل خاص، وما كيل الاتهامات عليه إلا اشتباه مقصود أو غير مقصود يمارسه ضعيفو الإيمان.

أغلب الأسر المتدينة والمحافظة قليلة الاختلافات قياسًا بالأسر الانفتاحية التي اشتبه عليها مفهوما الحرية والحلية من حيث لا تدري.

إذا كان الدين، والأخلاق الفاضلة، والذوق سمات شخصية في إنسان ما؛ فإن ذلك يقتضي الثقة فيهِ وحسن الظن به، بخلاف من لا دين ولا خلق له فإنه كزبد البحر لا قيمة له. حين يعلم المتزوجون أن العقد الشرعي هو أغلى رباط في الإسلام تذوبُ الاختلافات وتزول الخطوب مهما كانت عاصفة.

ما ذكرناه غيض من فيض أسباب الطلاق في المجتمع المعاصر وبشكل عام؛ أردنا من خلالها تجنبها مستقبلًا، أو معرفة الطرق العلاجية لها إذا لزم الأمر.

صحيح أن هناك بعض حالات الزواج لا يكون الحل الأمثل لها سوى الانفصال لكنها قليلة أو نادرة قياسًا بالحالات الكثيرة التي لا تستوجب ذلك.



error: المحتوي محمي