ما بعد المودة عاصفة هوجاء

المشاعر الإنسانية تعبير عما تنطوي عليه النفس من تصورات وتقييم لكلام ومواقف الآخرين، ومن نعم الله تعالى علينا أن جعل قوام علاقاتنا الاجتماعية والأسرية الناجحة هو تلك الأحاسيس المعبرة عن محبتنا للآخر واحترامه والرغبة في مد جسور التعاون معه.

والنفس الصحيحة السليمة من أسقام وعاهات أخلاقية تخلو من تلك المشاعر السلبية المعبرة عن الحقد والكراهية أو تعبر عن النظرة الاستعلائية التي لا ترى للغير أي مكانة أو شأن، فالنفوس الطيبة تنظر للغير نظرات الود وتنطق بالكلمات الطيبة وتتعامل مع الآخر بكل انبساط وأريحية، وما نجده من نفسنة وعصبية وتعامل بتعال واستصغار الغير ما هي إلا مكدرات وشوائب تخرج القلب عن نقائه، فالظروف العاصفة والمشاكل التي نجابهها والعثرات المسقطة لنا في الطريق، تخرج المرء عن اتزانه وتنقله إلى حالة التهور والتصرف اللامنطقي والهذيان بالكلمات القاسية.

وهذه النتائج المترتبة على اتساخ القلب وفقدانه لبوصلة التفكير الواعي والسلوكيات المقبولة تجعلنا نفكر ألف مرة قبل الولوج في هذه الحالة التي يرثى لها، فالمشاعر السلبية تعطي نتائج كارثية علينا قبل أن يصل ضررها للآخرين فتلبسنا سواد القلب وعمى البصيرة، فانظر إلى المرآة الجميلة التي تنقل لنا التفاصيل بكل دقة لما هو أمامها، كيف تتحول إلى عديمة الفائدة مع اعتلاء الوسخ لها وتبدلها إلى كتلة معتمة، فالمشاعر الصادقة جسر التواصل مع محيطنا وعماد العلاقات المستقرة والوثيقة وصولاً إلى حالة التفاهم، ومن يقع فريسة الأحقاد والتعالي يستفزه كل موقف وكلمة ويبقى بعيداً عن راحة البال والهدوء النفسي، وعلاقاته مهترئة تنقطع بمجرد التعرض لأي احتكاك أو سوء فهم مع الآخر.

والسؤال المتبادر إلى الذهن بعد اتضاح حقيقة المشاعر الصادقة ودورها في استقرار نفسيتنا ونجاحنا في علاقاتنا، هو: لماذا تطفو على سطح مشهدية العلاقات تلك التحولات والتقلبات، والتي تتحول معها المحبة والانسجام الظاهري إلى نفور وكراهية وقسوة في التعامل بشكل مفاجئ غير مسبوق؟!

بلا شك أن وجود هذه الحالات يغني عن التساؤل عن إمكانية وقوعه، وما علينا سوى البحث عن تلك العوامل التي وقع تحت تأثيرها التغير المفاجئ لنا ظاهراً، والحقيقة أن المشاعر الصادقة لا يمكن أن تتحول فجأة فيصبح صاحبها ماكراً وشريراً، وإنما قد نكون وقعنا ضحية الوهم والخداع وأقمنا علاقات على أساس عاطفي متسرع ودون النظر إلى صفات الآخر وتناسبها مع نفسيتنا وآمالنا فأخطأنا التقدير والاختيار، وقد يكون العامل لحالة التغير المفاجئ ظاهراً هو التراكم السلبي الناجم عن مواقف خاطئة ومنفرة توالت دون معالجة واعتذار وتسامح، فصنعت فجوة عاطفية وأضعفت المودة بينهما، فالمودة ليست مجرد إطلاق الكلمات الرقيقة بل هي سلسلة مواقف جميلة يعمل فيها كل طرف على مساندة الآخر.

وقد يكون العامل لهذا التبدل هو فقدان الطرفين لآليات فض النزاع والخلاف والاشتباك، من خلال الجلوس على طاولة الحوار وتبادل وجهات النظر والتفاهم حول أهم الحلول التي تعيد علاقتهما إلى ألقها، فالاعتذار ومقابلته بالتسامح يصون العلاقات من أي عطب ويزيل من النفوس شائبة التململ من الآخر والنفور منه.

وقد يكون عامل التبدل هو إهمال رعاية العلاقة من أحد الطرفين أوكلاهما، فالعلاقة تنمو تزدهر كما هي الأشجار والورود من خلال إروائها بتفقد أحوال الآخر والاستماع له في حكاية همومه وتطلعاته ومساندته في أوج المشاكل التي يمر بها، ومهما كانت المشاغل التي يتذرع بها البعض لإهمال من أحبه يوماً لا يمكن قبوله فيمكنه التواصل معه بأي صورة وتنظيم أوقاته وجعل علاقاته من أولويات اهتماماته.

وقد يكون العامل هو أن يكون قوام العلاقة هي المصلحة ولكنها ألبست قناع المودة، فكم من إنسان وصولي نفعي يقترب للآخرين من خلال الكلام المعسول والوعود الخاوية فتنطلي هذه الخدعة على البعض، وبعد انتهاء مصلحته تجده ينسحب بهدوء؛ ليبقي الطرف الآخر وكأنه علامة استفهام من الحيرة والدهشة، ولا يدرك إلا متأخراً أن ما يسمى صديقه لم يكن سوى بائع كلام لا أكثر.



error: المحتوي محمي