الأعمدة الدائرية «الأسطوانية المزخرفة» في المباني التقليدية بالقطيف

هذه المرة لن أتحدث عن تعريف العمود الدائري ولن أتحدث عن أهميته وأفضليته عن باقي الأعمدة الأخرى في المباني القطيفية هندسيًا، ولن أتكلم عن تواجد هذا العمود كحامل للأسقف العالية في المباني، سأسرد كيف هو الشعور بالفرحة والسعادة عندما تقع عيني على تفاصيل معمارية لم أرها من قبل لا من خلال جولاتي التوثيقية ولا من خلال الصور المتداولة، بدايةً كنت في جولة في أحد الصباحات المبكرة جدًا متزامنةً مع شروق الشمس، حيث الهدوء التام، كأي يومٍ من الاستعداد؛ ارتداء الملابس والحذاء المناسبين، مع كراسة الملاحظات والفيتة وقلم ومسطرة، والكاميرا وشنطة الظهر، هي جولة فيها من الرغبة والفضول لزيارة أحد البيوت القديمة، والصعوبة تكمن في أنه لا يوجد للبيت مدخل ولا نافذة أو حتى بيت ملاصق يمكننا الدخول من خلاله، جميع أسطح البيوت مرتفعة جدًا ويصعب عليَّ النزول للبيت المقصود، قد تتساءل؛ لماذا هذا البيت بالتحديد؟! قبل فترة كنت أوثّق أحد البيوت برفقة أحد الورثة، فصعدنا للسطح فوجدت أن هذا البيت فيه بعض التفاصيل الزخرفية ولم يسبق لي توثيقه، فوضعته في جدول أعمال الزيارات لعلِّي أجد فيه ما يستحق توثيقه بالكاميرا والكتابة، شاء الله أن أُطلَب من قبل أحد الأصدقاء في استشارة فنية، مقترحًا توسيع إحدى غرف بيت والدته، بشرط عدم المساس بهوية البيت واستخدام نفس المواد، وبعد الزيارة، كان لزامًا تحديد موعد آخر مع أحد المهندسين، لديه اهتمام بالعمارة التقليدية المحلية واضطلاع على أهم وأبرز التفاصيل الهندسية التقليدية، وهذا سيسهل مهمة المناقشة وعمل الاسكتشات المناسبة للتوسعة، ووضع بعض التفاصيل المعمارية كالأقواس والزخارف والارتفاعات، التقينا وتناقشنا واتفقنا على بعض الأفكار القابلة للتنفيذ، فكانت لي الفرصة في اليوم الثاني في استخدام البيت كوسيط للوصول للبيت المهجور، وللأسف عند صعودي للسطح؛ لا يوجد سوى فتحة في الجدار بين البيتين لا تتجاوز 50 سم بارتفاع عن الأرض 90 سم، كيف يمكنني الدخول من خلال الفتحة، وإن حاولت لن أتمكن من النزول للبيت الثاني وهو بعمق 1,50 تقريبًا وإن تمكنت من الدخول والنزول، لن أتمكن من الصعود والخروج! لا يهم ذلك المهم لدي أن أتمكن من النفاذ من خلال (الفتگة)، وضعت رجلًا، قدمت يدًا، أنزلتها محاولًا بكل الطرق ولكن لم أتمكن، إلا بعد إصابات عدة بجروح بسبب حجارة الفروش المتدلية ذات الزوائد الحادة جدًا، المهم تمكنت من الجلوس على عتبة القوس المرتفع عن أرض الغرفة بارتفاع، قفزت ولامست رجلي أرض البيت، وأول ما وقعت عيني وقعت على خيوط أشعة شمس الشروق المشربة ببعض الغبار أثناء سقوط رجلي على الغبار وكأنه استيقظ من سباته، مما جعل أشعة الشمس النافذة عبر الزخارف الجصية والباب، تمتد وتتراقص بخيلاء تجبرك على التقاط الصور!

بدأت المهمة بالتصوير والتدقيق على بعض التفاصيل الزخرفية؛ لا يوجد جديد أو ما يلفت النظر سوى أنني وفقت لتوثيق هذا البيت البسيط الغني بالزخارف والأقواس، استغرقت وقتًا قصيرًا في التصوير (الكاميرا والجوال) وتدوين الملاحظات والقياسات والأبعاد، جاءت لحظة الخروج (راحت السكرة وجاءت الفكرة) كيف أصعد للفتحة والخروج، عين هنا وعين هناك، حملت أحد قطع الخشب (مربوع) وأسندته على جدار الغرفة، لكي استخدمه كسابق أيام طفولتنا وشبابنا للتسلق، ولكن باءت محاولات الصعود (التشبلي) بالفشل، لا يهم؛ الأمر لا يقلقني، عادة لكي تكون رؤيتي أشمل للمكان ومشاهدته من كل الاتجاهات، غيرت زاوية وقوفي مقابل القوسين الجميلين، وهنا كانت المفاجأة!

لم أصدق ما رأيته، رفعت بعض الأنقاض والأخشاب لكي أتاكد مما أراه، تحفة معمارية، اقتربت لجسم العمود، وضعت يدي لمسته، كالمجنون أخذت أحدث نفسي: ما هذا! معقول (جسم) عمود مضلع بالكامل مزدان بالزخارف الجصية، مختلفة وغير متشابهة في تفاصيلها، وفريدة في نوعها، ومختلفة عن جميع الأعمدة التي وثقتها على مدى 4 سنوات، كانت فرحة الاكتشاف ومتعة المشاهدة لا تقدر بثمن، بين الكاميرا وبين الجوال وتدوين الملاحظات والمقاسات، استغرقت وقتًا طويلًا على غير العادة، بين وقت وآخر آخذ نفسًا للراحة، وعيني على الفتحة، كيف أتمكن من الخروج!

في كل الأحوال سأخرج ولكن سيكون مقابل ذلك ضريبة لا محالة (الشماميخ) والمزيد من الأتربة والغبار سيصيب جسم وعدسة الكاميرا، والملابس، بدأت عيني تجول للبحث بين أنقاض البيت؛ درام معدني متهالك من هناك وقطعة خشب من هنا وضعتهما بالقرب من الفتحة، لكي أتمكن من الوصل لها، وما خرجت إلا وساقيَّ محملتان بضريبة يمكن أن يدفعها أي شخص لديه شغف الاكتشاف.

شكرًا أصدقائي أبناء المرحوم الحاج عبدالملك الخنيزي (علي وباسم) وفي المقدمة الوالدة العزيزة الله يحفظها (الملاية خاتون البريكي أم محمد)، شكرًا للمهندس الشاب عبدالله صلاح المسلم.

لدى بعض الأصدقاء الفوتوغرافيين وخصوصًا كبار الموثقين والمؤرخين أرشيف معماري غني كالزخارف وخصوصًا الأعمدة، لعلنا نرى بعض الأعمدة المزخرفة، ونشاهدها قادم الأيام، مما يحقق إضافة التدوين والمعلومات التاريخية للعمارة التقليدية بالقطيف.




error: المحتوي محمي