لا تکُن حسُوداً ولا حقوداً

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5).
________
الحسد في المعجم: حسده وحَسَّدَه: تمنى أن تتحول إليه نعمته وفضيلته، أو يسلبهما.

وقال الجرجاني: “الحسد تمني زوال نعمة المحسود إلى الحاسد”.

وقال الكفوي: “الحسد: اختلاف القلب على الناس؛ لكثرة الأموال والأملاك”.

یسعی الناس فی هذه الدنیا لاقتناء ما لذ وطاب من نعيمها، وهذه طبیعة جُبل الإنسان علیها ولا إشکال فیها حین یلتزمُ بحلالها ویجتنب حرامها.

قال تعالی: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾.

ولكن هناك من لا یجد ما یتمنى، فرغم القوة والصحة والعقل إلا أنّ الكثیر تنقصهم أشیاء لا غنی لهم عنها مع سعیهم وعمل المستحیل لأجلها، لکنهم یرون آخرین بمستواهم أو أقل کفاءة ویملکون الکثیر الکثیر.

هنا یأتي دور النفس الأمّارة بالسوء، فتلعب بمشاعر الفرد وتستحوذ علی أفکاره وتسیطر علی جوارحه، وبدل أن یغبط ویتمنى مثل ما عند غیره، یسعی لزوالها ویدعو بالهلاك على صاحبها، وإذا کان الشخص متمرساً في الحسد فإنه بنظراته وحرکاته سیدمر من حوله لیستنشق نشوة الانتصار ویکون سعیداً حین یکون صاحبه تعیساً کٸیباً.

والحسد لیس له حدود، فمن لم یستطع النیل من قرینه بالحسد تسول له نفسه الغدر والتآمر الشیطانی لتدمیره.

وأول حادثة حسد فی تاریخ البشر کان قاٸدها قابیل الذی اغتاظ من أخيه هابیل حین قُبِل قربان أخیه ولم یقبل قربانه، فقرر قتله غیظاً وحسداً، (واتل علیهم نبا ابنی آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم یتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما یتقبل الله من المتقین).

ولیست حادثة أخوة نبي الله یوسف “علیه السلام” ببعیدة عن الحسد، بل هي الذروة في شراستها والقمة في دناءتها، (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰٓ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ)، هؤلاء الإخوة العشرة غاروا من أصغر إخوانهم فقرروا التخلص منه بلا رحمة، وزرعوا في قلب أبیهم الحسرة والآهات حتی ابیضت عیناه من البکاء، ولم یشفقوا علیه ولم یعترفوا بذنبهم، ﴿وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ﴾.

هکذا تعمل الأحقاد ویشتعل الغل في القلوب، وقد نهی الله سبحانه وتعالی عن هذا بقوله تعالی: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}، فإذا کان التمني منهي عنه فما بالك بإضرار الناس ووضع العراقیل فی طریقهم وتدمیر ممتلکاتهم وتشتیت شملهم والتأثير على صحتهم وإزهاق أرواحهم؟

لا عجب، فهناك قلوب نُزعَت منها الرحمة، ونفوس لا تتورع عن تدمیر الآخرین لا لجرم اقترفوه ولا لحق سلبوه إنما هی نفوس مریضة لا تستقر ولا تهدأ حتی تری غیرها یبکي ویتألم، وهؤلاء من قال عنهم سبحانه وتعالی في کتابه الكريم (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا).

وبقدر ما للحسد من أضرار وأخطار علی المحسودین، هناك ذم وعاقبة سیٸة للحاسدین، فقد قال رسول الله: (إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)، وقال (ص): (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا).

فمن عبد الله واتقاه وخشاه فلن تنازعه نفسه عما في أیدي الآخرین، ولن یستاء من نجاحاتهم وتَفوُّقهم، ولن یحسد ولن یحقد، ولن یتأذی من إخوانه وأقرباٸه وأصدقاٸه، أما من ابتعدوا عن الله وکان إیمانهم قشریاً وعباداتُهم سطحیة فانهم لا یفکرون إلا فی أنفسهم ولا تهمهم إلا مصالحهم، وباقی الناس عندهم همج رعاع ولا تهدأ نفوسهم إلا حین یجلبون لهم الأذی والعناء.

قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ).

هؤلاء هم المرضى الذین یحاربون الله فیما قسمه لغیرهم، (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ).

لماذا هذا الصراع؟ لماذا هذا التهافت علی حطام الدنیا؟ لماذا یضحی الناس بمن حولهم حتی أقرب المقربین إليهم ليهنأوا بلحظة فرح وسعادة خلافاً لتعالیم الدین ووصایا الإسلام.

وعجب العجاب أن یکون الحسد في الأعمال الخیریة والأمور العبادیة، فهناك من یعترض طریق غیره کي لا یعمل الخیر، وهناك من یمنع الناس من عباداتهم أو نشاطاتهم الدینیة لخدمة العباد کی یکون العمل والعطاء حكراً علی فٸة معینة، وهذا لا یرضي الله ولا رسوله.

بیوت الله أمانة ورعایتها تحتاج إلى إخلاص وتجرد من الأهواء، قال تعالی: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

والعمل الخیري متاح للجمیع ویزداد قوة حین یٶطر بالتعاون والتفاهم وتقاسم الأدوار برابط الأخوة والمودة، (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)، هذا شعار المٶمنین الخلص الذین یفضلون مصالح غیرهم علی مصالحهم ولو کانوا أحوج لها، قال تعالی: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

أما الطامعون اللاهثون وراء شهواتهم فهم یعبدون الشیاطین الذین یزینون لهم حب الدنیا، ویجردونهم من الرحمة والشفقة، قال تعالی: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَٰبَنِىٓ ءَادَمَ أَن لَّا تَعْبُدُواْ ٱلشَّيْطَٰنَ ۖ إِنَّهُۥ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ).

هؤلاء وقعوا في مصاٸد الهوی وامتلأت قلوبهم بالحقد والغلّ والحسد، فهل یُعقل أنّ یصلي المسلم ویصوم ویحج ویزکي ویدعو ویقرأ القرآن ویتعاهد مجالس الذکر ولا يكون قلبه عامراً بالمحبة والصفاء؟ أیُعقل أن يكون من المؤمنين وهو يكيد لأقرب الناس إلیه ویضمر العداوة والبغضاء.

هذه صفات الأعراب الذین قال عنهم ربنا في کتابه الکریم: (قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلْإِيمَٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَٰلِكُمْ شَيْـًٔا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

لکنّ هذا هو حال بعض النفوس الذین سیطر علی مشاعرهم حب الدنیا وغطی علی جوارحهم حبُّ الأنا، فمتی یفیق الغافلون؟ ومتی تحن القلوب إلى بعضها؟ متی یحترم الواحد منا حقوق غیره؟ لنحمد الله علی ما بأيدينا ولا ننازع الناس في أملاکهم، لنرضَ بما قسم الله لنا ونفرح لغیرنا بما وهبهم ربُّهم وندعو لهم بالمزید.

لننقّ قلوبنا من الغل والحقد والحسد، قال تعالی: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِۦٓ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ).

ومن جانب آخر، على الناس أن یتجنبوا ما يسبب لهم الأذی والحسد بالإكثار من ذکر الله وقراءة المعوذات وآیة الکرسي والأحراز والأذکار الخاصة بالحفظ والابتعاد عن الأشخاص المعروفین بالحسد أو ما يسمى العین الحارة، ولا تتفاخروا أمام الناس بإنجازاتكم ولا تتباهوا بنجاحاتكم ولا تفصحوا عن ممتلكاتكم وثرواتكم أمام کل من تقابلون.

ورد فی الحدیث الشریف: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود”، لكن هناك أموراً لا يمكن إخفاؤها وهبات رحمانیة لدی الناس لا تخفی علی الناظرین، وأصحاب العیون تتربص الدواٸر بكل من حولها، فما إن یروا صاحب مشروع ناجح حتی یصوبوا سهام حقدهم نحوه وینظرونه بنظرة المتمني فشله وخسارته، بل قد یلجأون للسحر والشعوذة.

وهناك من تغلی نفوسهم بالحقد والحسد علی من یتفوّق علیهم ولا یُشفي غلیلهم إلا خسارتهم وضیاع أموالهم، وهناك من یهدم البیوت ویشتت الأسر ویزرع الخلاف بین العواٸل، ومن یحرق المنشآت ومن یسد الطریق علی جیرانه لإیذاٸهم، (وإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ).

فلماذا هذه الأحقاد والأضغان ونحن إخوة وأهل وعشیرة؟ لماذا نتراقص علی جراح الآخرین؟ لماذا نفرح لحزن غیرنا؟ أیرضینا أن نسلب الآخرین صحتهم وعافیتهم، ونحن إذا أصابتنا شوکة نضج ونٸن من الألم، أیشفي غلیلنا فقد الناس أبناءهم وأحبتهم، وبقاءهم في لوعة وحسرات؟ وهل ترتاح أنفسنا إذا بات الناس في ذعر وهلع؟ أین نحن من قوله تعالی: (إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).

أساس التعامل مع الناس هو التقوی، فإذا خَلَت القلوب من تقوی الله تحکمت فیها الشیاطین ولعبت فیها الأهواء والأطماع، فلتستیقظ ضماٸرنا وتلینُ قلوبنا وتصفو نیاتنا وتطیب خواطرنا نحو الآخرین ونستأصل الأحقاد والأضغان من قلوبنا.

تعالوا نقارن أفعالنا واقوالنا وأحاسیسنا بصفات المؤمنين، هل المؤمن یدعو علی أخیه المؤمن؟ هل المصلی یحقدُ ویکره إخوانه المصلین؟ هل الذاکرین الله یتمنون الخسارة لغیرهم؟ هل المتنعّمون بکرم الله یدمرون ویحرقون ممتلکات أهل بلدهم؟

ألیس هذا یسمی إفساداً في الأرض؟ حین نتظاهر بالإیمان وقلوبنا من الداخل تغلی من الغیظ وتحترق بالحقد، وهذا ما بینه القرآن الکریم فی قوله تعالی: (ومن الناس من يُعجبك قولُه في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام).

والله یدعونا للتمسك بحبله المتین، وتذکر نعمه الكثيرة التي أغدقها علینا، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) صدق الله العلي العظیم.



error: المحتوي محمي