يُسارع أبناؤه الخُطى، ويترقبونَ ساعةَ قدومِ أبيهم المتوقعةَ والمجدولةَ عندهم، ما هي إلا ثوانٍ قليلةٍ، ونغمةُ صوتِ إقفالِ بابِ مركبتهِ المميزة تطرقُ آذانهم التي اعتادوا على سماعهِا عند مجيئهِ.
يسبقُ دخولهُ لهم فوحُ عطرهِ يستميلهم بشغفٍ ويشَّدهم إليهِ، ها قد وصلَ الوالدُ، يتنادونَ ويشيعونها فيما بينهم، يتسابقونَ إليهِ يُزاحم بعضهم بعضًا حولَ رجليهِ كي يحظوا بقُبلةٍ منهُ حاملينَ ما جلبهُ لهم من مَؤُونَةٍ وألعابٍ اعتادوا عليها منهُ في كلِ مرةٍ يعودُ للمنزلِ من سفرٍ أو عمل، فهم يزدادونَ زهوًا بأبيهم أمام أقرانهم ويفخرونَ بوجودهِ معهم؛ لباسهُ أنيق، حديثهُ منمقٌ، مضطردٌ في ودهِ ولطفهِ، لهُ رونقٌ وكيفيةٌ رائعةٌ تستهويهم أن يقلدوهُ فيها ويصبحونَ مثلهُ في شخصيتهِ حتى في طريقةِ لبسهِ لشماغهِ.
ما أجملَ تنظيمِ مكتبهِ الذي يختزنُ ويضمُ إنجازاتهِ، مكتبهُ الذي كانَ يديرُ مِنْ خلالهِ ملفاتٍ وجهودًا؛ ستكونَ نافذةً وجاهزةً بدقةٍ متناهيةٍ وترتيبٍ متقنٍ، ومذكراتٍ كُتبت بخطٍ جميلٍ سطَّرهُ يراعٌ دفَّاقٌ منهُ لا يتوقفُ ليشِّكلَ ِسجلاً متكاملاً شاملاً لكلِ حدثٍ تابعهُ واطلع عليه، مطلقًا العنانَ لنفسهِ ذاتَ الأفقِ المتسع في الإبداع دونَ توقفٍ في عدم ترك أي شاردةٍ أو عابرةٍ دون أن يذكرها ويدونها مفردًا لأبنائه نصيبًا من الذكر والتعليق حيزًا من الاهتمام كبيرًا فيما دُونَ وكتب.
أبوهم قُطبُ رحى لمِنْ حولهِ مِنْ أصدقاءٍ، يجمعُهم حولهُ، لهُ ملكَّةُ الكلامِ والإقناعِ، طيبُ المُحيِّا والكرمُ لكلِ من قصَّدهُ ودخلَ منزلهِ، يجلبُ معهُ الأُنس في حلهِ وترحالهِ، يحنو ويجذبُ ويستلطفُ إليهِ الصغيرَ ويأنسُ ويسترشدُ به الكبيرُ.
لم يمنعهُ انشغالهُ بما عندهِ وما يتحملهُ من مشاغلٍ من التفكهِ والتلطفِ مع كلِ من يلقاهُ من خارجِ مُحيطِ أُسرتهِ، يبنى معهُ ودًا وحميميةً تجعلُ مِنْ هذا الإنسان البسيط دائمَ السؤال عنهُ بإلحاحٍ عندَ عدم رؤيته لهُ، وهذا من مؤشرات النجاح الحس المجتمعي لديهِ.
أبوهم لا يستعصي عليهِ حلاً لمشكلةٍ طرأتْ في أُسرتهِ، فحلهُ سريعٌ ومجدٍ ومتقنٌ ونافذٌ.
أبوهم محوريٌ في عملهِ، فهو الرجلُ المهني والمحاسبُ مِنْ الطرازِ الأول الذي يصعُبُ تِكرارهُ في عملهِ كما شهِد بذلكَ كلُ مَنْ زاملوهُ وعِملوا معهُ. يعطي قرارًا مدروسًا وناجزًا ومتزنًا يحلُّ بهِ مُشكلةً استعصتْ على مَنْ عَمِلَ معهم وضاقتْ السُبلُ عليهم لإيجاد مخرجًا وحلاً لها.
أبوهم دقيقٌ في تلبيةِ حاجاتِ بيتهِ ومهامِ عملهِ وشؤونِ أُسرتهِ، يرتبُ ويبتكرُ ويُصلحُ وينظمُ بدأبٍ لا يكلُّ فيهِ ولا يملُّ. ستظل كلُ زاويةٍ في بيتهِ تُشْعِرهم بوجودهِ وتذكرهم فيهِ، فهو القارئُ النَّهِمُ والكاتبُ البارعُ والمدقِّقُ والمدَّون الخبير؛ تجدهُ يقرأ ويطَّلعُ ويتابعُ كلَ جديدٍ، يُجاري أولادهُ وحتى أحفادهِ فيما عندهم من معلوماتٍ حدثيةٍ، ويتفوقُ عليهم في ذلك وهم يزيدونَ فخرًا بهِ ويستأنسون وتزيد متعتهم في مجالستهِ بوقتٍ أكثر مما يجلسونهُ ويقضونهُ مع آبائهم.
روحهُ روحُ شبابٍ، وهمتهُ متسعةٌ لا تقفُ لعائقٍ اعترضَ طريقهُ أوفي حادثةٍ دون الأخرى عما عقدَ العزمَ للوصولِ إليهِ.
يعملُ عملَ الخيرِ بصمتٍ، لا يستهويهِ الصخب ولا التباهي؛ لمعدنٍ فيهِ أصيلٌ وطيبةٌ نفسٍ منهُ متدفقةٍ ومبدئيةٍ لديهِ ثابتةٌ، لا تثني إرادتهُ مهما حصل، عندهُ مِنْ النعمِ مما أعطاهُ اللهُ إياهُ الكثيرَ، لم يدبْ في نفسهِ كِبرُ أو تعالٍ على أحدٍ، تواضعٌ وحكمةٌ وفِطنةٌ وذكاءٌ تغنيهِ وتجعلهُ مترفعًا في الخوضِ في توافهِ الأمورِ وصغائرها.
دافعًا أبناءه بحنكةٍ في أنْ يتجاوزوا الصعابَ بعزيمةٍ وإصرارٍ، لهُ ذكاءٌ اجتماعي منقطعُ النظيرِ جعلتهُ يبني علاقاتٍ واسعةً مع الجميعِ في مُحيط مُجتمعهِ وخارجهِ.
أبوهم يُعطي بدونِ منِّةٍ على أحدٍ لا يذكُرها ولا يتمسكُ بإنجازٍ عملٍ حققهُ ويتمحور حولهُ ويتوقف عندهُ.
أبوهم شغفٌ بحبٍ وعشقٍ لمولاهُ علي – سلام الله عليه – قرأ عنهُ بعمقٍ منذُ زمنٍ بعيدٍ حينَ تصفحَ وقرأ ما سطَّرهُ وكتبهُ الرائعُ والكاتبُ الكبيرُ جورج جرداق في موسوعتهِ الخالدةِ “علي صوتُ العدالةِ الإنسانية”، فأصبحَ إمامهُ عندهُ نغمةً لمْ يرقَ لها للآنَ تلحينُ.
وهذا ما سطَّرهُ الشيخُ الدكتور أحمد الوائلي- رحمهُ اللهُ – في ديوانهِ “إيقاعُ الفكرِ” في قصيدتهِ النونيةِ “إلى أبي تُراب”
وتـظـلّ أنتَ كـمـا عهدتُك نغمة
للآن لم يرقى لها تلحينُ
فرأيت أن أرويك محض رواية
للناسِ لا صور ولا تلوينُ
فلا أنت أروع إذ تكون مجردا
ولقد يضر برائع تثمينُ
ولـقد يضيق الشكل عن مضمونهِ
ويضيع داخل شكلهِ المضمونُ
طالما ردد والدهم أبياتًا لملحمةِ الرثاءِ الخالدة “أحرم الحجاج” للشيخ حسن الدمستاني – رحمهُ اللهُ – في رثاءِ سبطِ المصطفى – سلام الله عليهما- معقبًا عليها ومبينًا لها بقولهِ بأنها محاكاةٌ واستحضارًا للواقع كما حدث مسددةً بعينِ الله.
والدهم كانَ رشيدًا ومتأملًا في رؤاهُ، وخاصة حين يمر على هذه الأبيات:
ضاق بي يا جد من فرط الأسى كل فسيح
فعسى طود الأسى يندك بين الدكتيـن
جد صفو العيش مـن بعدك بالأكدار شيب
وأشاب الهـم رأسي قبل اُبان المشيب
فعلا مـن داخل القبـر بكاء ونحيب
ونـداء بافتجـاع يا حبيبـي يا حسيـن
فطالما ردد على مسامعهم عندَ حديثهِ عن إمامهِ الحسين – سلام الله عليه – نريد أن نكون كما يُرِيدنا الحسينُ أن نكونَ، لا كما نريد نحنُ أن يكونَ الحسينَ.
كافحَ ونازلَ صُعبًا في مرضهِ، نظمَ أمرهُ، وشدَّ عزيمتهُ وتأقلمَ على حالهِ، بانَ وعَظُمَ تعبُ السنينِ في رجليهِ، لم تستطعْ حملهُ لما نالها من جهدٍ وتعبٍ، لم تسعفهُ وعلقتْ هنالك قوتهُ وهمتهُ التي لم تقف عند يومٍ من الأيام عند حدٍ.
أبوهم قد اختارَ اللهُ لهُ دارًا هي لهُ أحسن من دارهِ التي هو فيها ومجاورةَ مَنْ أحبب مِنْ آل المصطفى “سلام الله عليهم”.
بقى لأبيهم عليهم حقٌ معقودٌ في رقابهم؛ أن يكونوا صالحينَ كي يستجيبَ اللهُ دعاءهم لهُ بالرحمةِ والأجرِ، فقبول الدعاء واستجابتهِ مرتهنًا بصلاحِ الولدِ واستقامتهِ.
جاءَ في رسالةِ الحقوقِ للإمام زين العابدين علي بن الحسين – سلام الله عليهما – في حق الوالد: “وأما حق أبيكَ: فأن تعلم أنهُ أصلكَ، وأنكَ فرعهُ، وأنكَ لولاهُ لم تكن. فمهما رأيتَ في نفسكَ مما يعجبكَ فاعلم أن أباكَ أصلُ النعمةِ عليكَ فيهِ، واحمد اللّهَ واشكرهُ على قدر ِذلك. ولا قوةَ إلاّ باللّهِ”.
ورد عن النبي صلى الله عليه وآلهِ أنهُ قال: {إذا مات الإنسان انقطع عملهُ إلا من ثلاث: علمٌ ينتفعُ به، أو صدقةٌ تجري له، أو ولدٌ صالحٌ يدعو لهُ}.
قال تعالى في كتابه المنزل على حبيبه ونبيه محمد صلى الله عليه وآله، حيث قال عز مِنْ قائل: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوكِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء 23].
الأبوة مسؤولية، وحس رفيع، وتضحية مستمرة، وكما يقولون في المثل الدارج “فلا يشب الشباب إلا بشيب الذين كانوا شبابًا”، وهم الآباء رحم الله من مضى منهم وحفظ الباقين.
اِسْتَتَرَ زَمانُ بكُنْهٍ كانَ يُخفيهِ وتكشفتْ لنا ما حل بواديهِ.
وبانتْ لنا بعدَ غيابهِ ما كنا نخشاهُ من طوالعِ الأيامِ وما سوفَ تُبديهِ.
نبرةُ صوتكَ مِلْؤهَا حياةٌ يُبدِدُ ما اعترانا من همٍ انهكَ صاليهِ.
قد أضحى ظهرنا مكشوفًا وبان علينا انكسارٌ بعدَ عاليهِ.
مكتنزُ صبر ٌوخبراتٌ وبعدُ رؤى كنتَ حُرِيْا بما كنتَ تحويهِ.
ناديتكَ أبي من خلالِ حُجُبٍ ودلعِ صغيرٍ كنتَ تحميهِ وتـُـؤويهِ.
فأنتَ المُعْطي والرَؤُومُ بلا مِنَّةٍ منكَ ليَافِعٍ كنتَ تداريهِ وتفديهِ.
قد كنتَ مفزعًا في مُلِمٌّاتِ غَوَائِلٍ صَعُبتْ وبَعُدتْ عن رأي رائيهِ.
ما احتواكَ قبرُ لستَ مصدقهُ وينتابني شعورٌ أنك لا محالَ نائيهِ.
يؤنسكَ فيهِ علي الذي كنتَ تعشقهُ وتفديهِ بحبٍ أنتَ بانيهِ.
أبي استودعتكَ الله ُ التي لا تخيبُ ودائعهُ حينَ ترجاهُ وتدعيهِ.
يعزُ والله عليّ مفارقتكَ لكن لا بدَ من يومٍ أنتَ ونحنُ نلتقي فيهِ.
رحمةٌ ورضوانٌ ومغفرةٌ تنزلُ عليهِم.