حيدر العلوي القابض على الرخام فنًا

تناقلت الصحف خبر فوز الفنان حيدر العلوي بالجائزة الثانية في ملتقى طويق للنحت الدولي، وتناثرت التهاني والتبريكات من قبل جماعة الفن التشكيلي وكذا أعضاء نادي الفنون بالقطيف وهو أحد منتسبي النادي، فالكل يبارك للسيد هذا الإنجاز، والذي يعتبر هو الأول في مسيرته الفنية، هذا الفوز المتألق الذي أثلج صدور الجميع.

ماذا يعني؟
إنه يعني الكثير بالنسبة لفنان ناشئ ويضعه ضمن خارطة النحاتين البارزين ويطلقه في فضاء النحت الواسع، ويحمّله مسؤولية مواصلة مشوار هذا الدرب الشاق والصعب، إنجاز يعد مفخرة للحركة التشكيلية في منطقة القطيف خاصة وعموم المملكة.

حقيقةً فوز حيدر جاء مفاجئًا له ولأهل الفن معًا، بالنظر لشاب حديث عهد بالنحت، فهو لم يتمرس بما فيه الكفاية على مسك الأزاميل وجهاز النحت الثقيل، بالتعامل مع كتلة ضخمة من الرخام، ويطوعها تكوينًا فنيًا في مدة زمنية قدرها ثلاثة أسابيع وأمام الجمهور وطلبة الكليات والمدارس، إنه لجهد وقوة بأس شديدة.

عرف عن حيدر العلوي مشاركاته في السنوات الأخيرة ضمن معارض محلية بمنحوتات صغيرة الحجم لا تتجاوز ارتفاع 50 سم وأقل من ذلك، ربما تجربة النحت بمهرجان الفنون بالجبيل قبل أربع سنوات هي الاختبار التمهيدي لقدراته الواعدة، والذاهب بها بحلم أبعد، وتأتي الفرصة سانحة مع قرب انتهاء عام 2021 بالتصدي لحجم أكبر في ملتقى طويق للنحت، والشيء الذي سره بداية حين قبل ضمن أفراد الملتقى حيث كانت مرحلة التسجيل قد شهدت تنافسًا وإقبالًا كثيفًا وصل إلى أكثر من 400 فنان من 71 دولة حول العالم، بعرض كل متقدم ملفًا كاملًا لنتاجه السابق والذي لا يقل عن خمس سنوات، وسيرة ذاتية تستوفي شروط القبول مع تقييم لمنجزه كاملًا، وبعد الفرز المطول تم اختيار السيد حيدر، ومنذ لحظة قبول اسمه واختياره ضمن قائمة الـ20 نحاتًا فقط الذين سيدخلون ورش العمل المفتوحة في الهواء الطلق، شمر عن ساعديه، والفكرة تتوقد في ذهنه بحضور قد يكون عنده شرفيًا وسط أعلام النحت.

انخرط بإصرار لإثبات ذاته يقوده طموح متوتب وثقة بالنفس عالية، وعزيمة صلبة، دار حول قطعة الرخام بكل حواسه، كراقص في العراء ليجسد “شاعرية المكان” الذي هو عنوان الملتقى، مستوحيًا من صخب الصحراء، تموجات سطحها، التي يشكلها هبوب الرياح، أنامله الخشنة جسدت من صلابة الرخام نعومة أمواج ذرات الرمال، المتوالية إيقاعًا موسيقيًا، وجعلت من الشكل تحفة جمالية ذات دلالة معبرة بقطف المركز الثاني وسط أساتذة النحت، إنها سواعد فنية أعدت تلمسًا منذ الصغر بعمل تكوينات بخامة الطين والمعاجين، “دمي ومنازل”، وارتقت الممارسة تخصصًا في كلية التربية الفنية بجامعة الملك سعود، وأثناء الدراسة اكتشفه الدكتور صالح الزاير أن لديه مقدرة على النحت فأخذ بيده وسلمه جهاز “الگراندر” لينحت شكلًا جماليًا مبسطًا على الرخام، وجاءت لحظة على طبق من ذهب من نحات إيطالي زائر للقسم يدعى (ديونيسيو شيماريليي) الذي عرض على الطلبة عوالم فن النحت المعاصر وأقام ورشة فنية ضمن زمن محدد، بهذا الجو المفعم بالتجربة القصيرة والمكثفة فنيًا، وتجربة مثمرة .

انعكست جودة في فهم أساسيات النحت لدى حيدر لكن الانتقال من مرحلة التعلم إلى التعليم مدرسًا للتربية الفنية منذ 15 سنة ظل النحت عنده مجرد هواية وليست احترافًا ومتفرغًا للعمل الفني، هي فسحات للتعبير عن رؤيته الفنية بواسطة حفر على الأخشاب من نساء الماء وحاملات الجرار ونقش الآيات عن طريق الخط العربي الذي يتقن أغلب أنواعه، مرورًا بالضرب فوق الحجر بتشكيلات متنوعة إلى نحت أجساد قطع الرخام ضمن مساحة كفوف اليد، وإن زادت لم تتجاوز ارتفاع المتر الواحد.

هذا ما قدمه في مخيم النحاتين الثالث بسلطنة عمان، وثمة منحوتات صغيرة متفرقة لم تشبع عين المتلقي ولم تأخذه إعجابًا مستحقًا لشاب يكافح ويكافح لإثبات قدراته ومهاراته، في الغالب يشار إلى أن أعمال حيدر باعتبارها عرضًا تكميليًا، حيث تركن على هامش المعارض التشكيلية وخصوصًا المحلية!

الآن بنيله الجائزة أصبح محل اهتمام اهل الفن وفي دائرة الضوء لكل ما هو قادم في عالم النحت وكذا مشاركاته ضمن المعارض الجديدة. الإعجاب والثناء أسراب فرح تظللها علامات تقدير في في ثان إطلالة دولية له وغاية مناه كسب تجربة من ذوي الخبرة ضمن مشاركة عالمية، أن ينخرط خلال ثلاثة أسابيع بين لهيب الشمس والغبار المتطاير وصخب الأزاميل، وفي نهاية المطاف يحقق إنجازًا وسط نحاتين احترافيين لهم باع طويل في تطويع الرخام والحجر، بقطفه المركز الثاني وسط 20 نحاتًا متنافسًا على كسب المراكز المتقدمة، وجلهم من المحترفين، عرب وأجانب وقليل منهم هواة سعوديون، لهو فوز عظيم لشاب صغير السن، وهو الآتي من بلدة القديح الوادعة التي يتسابق شبابها علمًا وأدبًا وشعرًا في إبراز وجهها الثقافي حضورًا مجتمعيًا، ولكن الفن التشكيلي لم يترسخ بعد ليشار إليه بالبنان وخصوصًا اللوحة المسندية، فكيف والحال بالنحت! هذا الفن الإشكالي الذي يثير الريبة بالنظر إليه، ليس على مستوى البلدة ولا المحافظة بل على مستوى عموم المملكة.

حينما يشار لفلان بأنه رسام، الأمر مقبول ومرحب به مجتمعيًا، لكن أن تقول هذا (نحات) فالويل والثبور له ومن نظرات الشزر، بل تطلق الأحكام ضده جزافًا “تنحت أصنامًا، أعوذ بالله” وتلويح بالتحذير المبطن “ابتعد عن صنع الأزلام هداك الله فإنها رجس من عمل الشيطان” وآخرون “لا تلق بنفسك إلى التهلكة ومن دخول النار”! وتطرق على المسامع تخويفًا كالطرق على الأبواب الخشبية في الهزيع الأخير من الليل “لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة ولا تماثيل”! وهنا يحضر الشرع واجتهادات الفتاوي المصفوفة صفًا حسب كل مقاس من أنفاس فنون الحياة، وليشرح الفنان تشريحًا استعلائيًا، يقض مضجعه وتأطيره ضمن زوايا ونصوص تراث الغابرين، بل يصادر حقه في اختيار مجال يهواه ويعتبره ذا قيمة فنية راقية. لذا لا عجب في قلة عدد النحاتين سواء في المحافظة أو في عموم المملكة، فن متأخر جدًا قياسًا للوحة الحاضرة منذ ما يربو على 60 عامًا.

النحت فن وعلم ويحتاج إلى جلد وصبر وقوة، لكنه مكبل عندنا بأغلال التباسات الحلال والحرام، بالذهاب رأسًا لنحت ذوات الأرواح المستشكل على أحجامها وتكويناتها النصفية أو الكاملة، وبعض من حرمها جملة وتفصيلًا، وكأن النحت محصورًا فقط في أشكال الكائنات الحية. النحت أوسع من ذلك بكثير، له مدارسه وأشكاله المتعددة، والذي يمارس في بلادنا يقع في خانة النحت المجرد، وهو طوق نجاة، نحت بعيد كل البعد عن أي لمحة من لمحات التشخيص إلا ما ندر، والاستثناء الوحيد من بين نحاتين المملكة هو الفنان القدير كمال المعلم الذي أبدع نحتًا لأجساد الخيول في ملتقيات عالمية، والباقون من قدماء ومحدثون يدورون في فلك المنحوتات المجردة.

هذا واقع النحت في بلادنا، وعرف عن منطقة الدوادمي كثرة النحاتين فيها وعلى رأسهم علي الطخيس، وهناك العديد من الأسماء في أماكن متفرقة منهم عصام جميل ونبيل نجدي، وتزدان مدينة جدة عن غيرها من مدن المملكة بالنصب الجمالية لنحاتين عالميين وعرب وسعوديين غالبية المعروض أشكال مجردة، وقليل منها تحمل صفة المنحوتات مثل قبضة اليد، وكذا الإبهام المنتصب للنحات الفرنسي “سيزار” ومجسم صيد البحر وأيضًا الطيور المهاجرة للنحات “جيوفاني” بالإضافة للكفين اللتين تدعوان تزينها الآية الكريمة {رب اشرح لي صدري ويسر لي امري} للنحات محمود بنات، وحاليًا سعيًا حثيثًا لتزيين الرياض بالمنحوتات الجمالية التي شهدت قبل سنتين سمبوزيوم للنحت على نطاق عالمي رعته مؤسسة مسك في ملتقى الفنون، وأيضًا ملتقى طويق للنحت في دورته الجديدة بالشراكة مع جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، والمعهد الملكي للفنون التقليدية.

والذي ابتدأ من تاريخ 15 نوفمبر واختتمت فعالياته في 7 ديسمبر، بتتوج ثلاثة نحاتين بالمراكز الأولى، وجاء الترتيب على النحو التالي؛ الجائزة الأولى للنحاتة النيوزيلندية “أنا كورفر'” بمنحوتتها “المنارات الثلاثية” والجائزة الثانية للنحات السعودي حيدر علوي بمنحوتته “خطوط الصحراء” والجائزة الثالثة للنحات البلجيكي “كيم دي رويشر” بمنحوتته “اللامرئي”، ثلاث جوائز ذهبت للأعمال المستحقة من بين 20 منحوتة لعرب وأجانب وسعوديين.

وكان من ضمن المشاركين أنامل فنانة من القطيف الأستاذة “رجاء الشافعي”، وهي التشكيلية التي عرفت باللوحات المستوحاة من رموز إسلامية ذات بعد زخرفي موشاة بحروف عربية، فقد أنجزت المنحوتة وأطلقت عليها عنوان “علاقات”، إنجاز لا يقل جمالًا عن المنحوتات الأخرى، وعبر هذه المشاركة تعلن عن نفسها بأن لديها مهارة رفيعة في ميدان النحت الصاخب، فمن نعومة الريشة إلى صلابة الحجر، جمع بين مهارتين؛ الرسم والنحت في آن واحد، وهي بذلك تنضم إلى قائمة النحاتين القطيفيين برفقة مهدية آل طالب وأزهار المدلوح، وأخويهما كمال المعلم وحيدر العلوي القادم بقوة والذي قطف الثمر وأشاع الخبر مسرة وفرحة كبرى في مسابقة طويق للنحت ضمن منطقة جراكس بالدرعية، وهو أحد برامج مشروع “الرياض آرت”، والذي ضم لجنة خبراء دوليين في نسخة هذا العام 2021، كل من كريستيانا كولو (مديرة المعرض الوطني للفن الحديث والمعاصر، روما – إيطاليا)، ونيكولاس كولينان (مدير معرض الصور الوطنية، لندن – المملكة المتحدة)، ويوكو هاسيغاوا (المدير الفني لمتحف القرن الحادي والعشرين للفن المعاصر، كانازاوا – اليابان)، ومارينا لوشاك (مديرة متحف بوشكين الحكومي للفنون الجميلة، موسكو – روسيا)، وايك شميث (مدير معارض أوفيزي، فلورنسا – إيطاليا) بالإضافة إلى القومسير – القيم الفني للملتقى علي جبار، هذه الأسماء الخمسة الآتية من عدة دول والتي لها باع طويل في حقول النحت والفن التشكيلي هي لجنة التحكيم، فقد نظرت بعين فاحصة لقيمة كل منحوتة على حدة بجمع الدرجات ضمن حسابات الكتلة والفراغ، والمزج بين الشكل والمضمون، وفلسفة العمل، من هنا وقعت ذائقتهم الرفيعة وعينهم الخبيرة اتفاقًا حول منحوتة حيدر الجمالية ذات البعد الرمزي (خطوط الصحراء) إثر تموجات الريح، وتتوج بالمركز الثاني، فهذا يعد علامة فارقة وإنجازًا كبيرًا، ذو دلالة معنوية يستحق الشاب الواعد منا الإشادة والتقدير، وأستعير كلمة لأحد الفنانين (الإبداع ليس حكرًا على أحد).

تحية لك يا حيدر العلوي من أعماق قلوبنا على هذا الإبداع الرائع، لقد وضعت رجلك شموخًا للعلا، بارك الله فيك وسدد خطاك، وتحية عامة لكل من يشيع الفن ألقًا إنسانيًا وقيمة ثقافية وحوارًا متمدنًا بين الحضارات والأمم وشعوب الأرض.



error: المحتوي محمي