كالساحر في خفة يده، يسحرني بنور همساته، يدهشني نبض الكلمات بين يديه ولن يصل أحد إلى الهبات النفسية التي ينثرها لسانه الرطب بالحب لمن يشاركه الحديث، هؤلاء الناس حديثهم عالم زاخر بالأناقة اللفظية، يتجدد الوقت معهم، وتخجل الدقائق عن الانصراف من تُخوم أراضيهم، وينتهي بنا المطاف بسماع صدى كلماتهم سمفونية تُعزف كلّما حانت ساعة ذكراهم . فإذا حظيت برفقةِ أحدٍ من هؤلاء الناس لاتفرّط بصحبته ولتكن قرينه، فإنّ الندم وأشدّه في مفارقة من يمتلك عقلًا يُملي على لسان صاحبه بكل أنواع الطيبات من الأحاديث.
اللسان رسولك إلى الناس، وبه تصعد عندهم فوق سلمٍ، رأسه في أعلى السماء، باللسان يتعطش المحبوب لحديث حبيبه ويلذ حديث عُشّاق الأرض، لكن به تدور الدوائر على حمقى الفكر؛ (فمِن أعظم أمارات الحُمْق في الأحْمَق لسانه؛ فإنَّ قلبه يكون في طرف لسانه، وما خطر على قلبه نَطَق به لسانه) لذلك كان من الأسلم لك كتم أحاديثك الخاصة عن عامة الناس وكان من الأجدر بك قول الصدق ما حييت دون تلويث صحيفة أعمالك بسواد الكذب.
إنّ الكذب أحد الوسائل الفنية التي تُطرح فيها قضية ما بشكل مُتقن، إذا تمرس صاحبها في نسج خزعبلاته وأراد أن تكون الكرة في ملعبه، وقد يكون موقفًا ما ساعة هلاك أحاديثه؛ إذ لن يخاطر الآخرون بعدها بتصديق الراوي وسوف تُدمج حقائقه بأكاذيبه وتفضحه عثرات لسانه.
يقول أحد الحكماء: “الكذب، النفاق، المكر، الاحتيال جبال ثلج إذا سطعت عليها شمس الحقيقة ذابت وذاب معها أصحابها الذين حاولوا أن يصلوا إلى السحاب” وعندما يتحدث الكاذبون نتمنى أن نعتق أنفسنا من سجن أكاذيبهم وأحيانًا نقول: أعطه جوّه. دعه، ليقل ما يحلو له فقد اعتاد الجميع على أحاديثه الكاذبة وأصبحت مجالًا للضحك والفكاهة، وكلّ ما يزعج في موضوعه ليس كذبه على الآخر إنما هو الخوف كما قلنا في عدم تصديقه مطلقًا.
يقول ميخائيل: “أعرف أن الكلمة حياة متحركة وهي بأدقّ تفاصيلها رمزٌ لما هو أكبر وأعمق من حروفها”. الكلمة تخضع لإرادة العقل ويخرجها اللسان بما يُملى عليه، ولكنك يا عزيزي ميخائيل لم تعلم أن هناك من يكذب بكلمة، يشتم بكلمة، ويدفن إنسانا بكلمة.
وبعيدًا عن هذه الأصناف يظهر ساحر الكلمة؛ إذ يقول:
ساحرٌ أنا باستطاعتي أن أُحوّل حروف الكلمة إلى:
هدية فاخرة
إلى بحر هادئ
إلى قصيدة غزلية بألف بيت
بكلمة واحدة أسكن القلوبَ، بكلمة أستطيع أن أصنع جدارًا وأهدم آخر
هؤلاء الناس تأتي كلماتهم آية في هندسة الحديث وزخرفه، وكأنهم عرفوا طرق القلب ومجاهله واخترعوا حروف هجاء جديدة اقتصرت على معاجمهم الذوقية.
من هذا المنظور أرى أنّ الانتباه للتفاصيل الصغيرة في العلاقات الاجتماعية فنٌّ يجعلك تضع صورة متكاملة للآخرين وتميز صدق الحديث من كذبه وتفسّر أسباب ذلك. بإمكانك رفض مبررات الكذب مهما كانت وأن تحافظ على قوة الفراسة التي تملكها لتفرق بين الصادق الحقيقي من الكاذب المُزيف، وتُظهر براعتك في التعامل معهما، ولا تنسَ أن بين الهوامش والمتون هناك الألماس والياقوت، وبين الكلمات والحروف تظهر خبايا النفوس. بيد أن هناك أمرًا واحدًا يجب ألّا تغفله وهو أن تكون جيشًا بنفسك، وأن تحفظ جميع قوانين الله تعالى في مفكرتك الخاصة حتى تتقن ما لك وما عليك وأنت تسير مع الناس في مختلف مراكبهم.