طقسُ العبورِ وخلودُ الذاتِ في ديوان «ن والظمأ»

كيف ينظر الشعراء إلى الحسين؟ لعله السؤال المركزي لشعر الولاء بأكمله، حيث الحسين الشهيد؛ الرمز الأكبر والأهم للحركة الولائية، الممتدة منذ القرن الهجري الأول، إلى يومنا هذا؛ إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزه، فمهما امتدّت القصائد، وتناولت شخصيات قدسية أخرى؛ إلا أنها تعاود استدعاء الحسين، والتمثل بفاجعته الأليمة، ديوان الشاعر ناصر زين المعنون بـ”ن والظمأ”، يسير ضمن هذا الاتجاه، فيستدعي المأساة الكربلائية، ويضعها نصب اهتمامه؛ ليقدِّم الحسين رمزاً مشرقاً، شاملاً بإشعاعه جميع البشر.

كيف ينظر الشاعر ناصر زين إلى الحسين؟ سؤال مرتحل؛ حيث كل شاعر ولائي مطالب بالإجابة، فالحسين بوصلة تتجه الأنظار ناحيتها؛ لتستلهم من ميراثه وفاجعته كل الدلالات، الممكنة وغير الممكنة.

الانتقال من الفضاء الخاص (الشيعي، المذهبي، الطائفي) إلى الفضاء العام (الإسلامي، العربي، العالمي)؛ يمثل انفتاحاً للدلالات، فيستدعي معاملته على هذا الأساس، حيث يصبح جزءاً من ثقافات أخرى، لمسلمين كانوا أم غير مسلمين، إذ الحسين رمزٌ للثورة على الظالم والدفاع عن المظلوم، وبهذا يتحوَّل من شخصية اعتيادية إلى شخصية مثالية، تتم نمذجتها، هذا ما يطرحه ديوان “ن والظمأ” بشكل خاص، وهو ما يهدف إليه الشعر الولائي بشكل عام.

يتشكل الحسين ضمن الديوان، عبر ارتباطه بثيمة “الماء”؛ الدالة على النماء والاستمرار، وهو ما يشير إلى بقائه داخل الوجود، رغم رحيله وانتقاله إلى عالم المجردات، وهو بقاء معنوي، أسهم في تقديمه كأحد النماذج العليا؛ يستلهمُ البشر أفعالَه، ويتَّبعون تعاليمه، وينفذون أوامره، ويحملون أفكاره.

تتعدد النماذج العليا، وتتنوع ما بين البشري وغير البشري، وما بين الشر والخير، إذ لكل نموذج تمثيلٌ رمزي معين؛ فعنترة العبسي رمز للشجاعة، وحاتم الطائي رمز للكرم، وهرقل اليوناني رمز القوة الجبارة، وفرعون المصري رمز للتجبر والطغيان، أما على مستوى الحيوانات والطيور؛ فالأسد رمز الشجاعة، والغراب رمز الفأل السيئ، والحمامة رمز السلام، وعلى مستوى الأشياء؛ فالميزان رمز العدالة، والصليب رمز المسيحية، والهلال رمز الإسلام.

يُقدِّم الديوان الحسين كرمز للديمومة والاستمرار؛ فهو الذي يمنح الوجود معنىً، ودونه يغدو الوجودُ عدماً، هذه النظرة مشتركة بين شعراء الولاء، تحيل لها أشعارهم وقصائدهم، أمَّا الاختلاف ففي كيفية تقديمها.

تتنوع صورة الحسين داخل الديوان، فتارة يقترب من الواقع، ويجسد معركة كربلاء كما جرت (حفلة من الملكوت):
“يا للحسين وحيداً،
كلُّه جبل من الجراح،
فأنَّى يُذبح الجبل؟!”.

التساؤل لا يأتي للإلغاء والنفي، وإنما لتقرير حقيقة، والتذكير بفاجعة، فالحادثة ليست مستقبلية، أو يمكن تغييرها، وإعادة تشكيل مناخاتها، إذ هي حدثت وانتهت، ونتائجها معروفة سلفاً، فغرض التساؤل الإنكار والتعجب من الفعل، ويمكن هنا رؤية كيفية استثمار النتائج المتمثلة في “جبل من الجراح”؛ لجعل الحسين رمز “ابتكار الغيب”؛ حيث “قد نزفت من صدره جنةُ الإنسان والمثُل”، وهو ما يقود إلى “الخلود”، الذي اختُتمت به القصيدة.

تستمر صورة الحسين في التشكل، حين يماهي بينه وبين الماء؛ رمز النمو والديمومة، إذ لا فرق بينهما، فالاثنان يقع على عاتقهما بعث الحياة (عطر الله):
“سيكتبهُ الماءُ الحسينُ مواسماً
فينمو على كف القياماتِ مشعرُ”.

ثمة انتقال برزخي؛ من الحياة إلى الموت، من الدنيا إلى الآخرة، من البعث الوجودي المادي إلى البعث المعنوي الرمزي، حيث الحسين في القيامة، تحوَّل إلى “مشعر” التقاءٍ للأرواح، وهو ما يتم تأكيده في قصيدة (على لسان الماء):
“ونمت شعوبُ الماءِ
عند جراحهِ
هل كانَ نحرُ الماءِ (حجًّا أكبرا)؟!”

الانطلاق من السؤال لتأسيس رمزية الحسين؛ سمة أسلوبية اتكأ عليها الشاعر، واستطاع عبرها الارتحال بين الأبعاد الجسمانية والروحانية، فمرة استحضر العالم المادي الراهن، ومرة استحضر عالم المجردات والغيب، وهو ما تصوّره نهاية القصيدة؛ التي تؤكد حالته البرزخية:
“لا شيءَ يعرجُ للسماء
سوى دمٍ
سكبَ الحياة
على الممات..
وأمطر!”.

الموت معبرٌ، وحين يتم تجاوزه، تُمحى الفروق بين العالمين الدنيوي والأخروي، حينئذ؛ يمكن الوصول إلى الخلود، عبر موت مختلف؛ موت متفرد، لا يشبه موت أحد آخر، وهو ما تحقق للحسين، الذي عبَر البرزخ الفاصل؛ بموته المختلف، فاستطاع التحوَّل من شخصية اعتيادية، إلى شخصية رمزية؛ تمثَّلها الآخرون، واستلهموها، باختلاف أجناسهم، وأديانهم.

هذه صورة الحسين كما رسمها وقدَّمها الشاعر ناصر زين في ديوانه.



error: المحتوي محمي