طافح بالحزن والمنافي، ومأساة الوجود؛ حيث السبيل الوحيد للخروج من عنق الزجاجة، يتمثل في البوح، ولكن البوح ممتنع، لهذا يستعر الحريق بداخل الذات، إلى أن يصبح الموت أقرب من الحياة، حينذاك تتضخم المأساة، وينتشر الحزن أكثر؛ ليكون طاغياً، ومتسيِّداً، وصاحب الكلمة العليا، إزاء الذات، التي لا يكون أمامها سوى حلٍّ أخير؛ يتمثل في صمت قاتل، وغياب تام، و”موت” رمزيٍّ؛ لتفسح المكان لـ آخَرها، أو نسختها الشبيهة بها.
تجربة عاطفية ممتزجة بالوجود، يقدِّمها ديوان “ما يشبه النسيان” للشاعر علي الناصر؛ إذ عمد إلى تشظية ذاته، واستخراج نسخة مزيفة منها، فأسند إليها ممارسة الوجود؛ من أجل اكتشاف الفجوة الحاصلة بين حياته وواقعه المحيط، لردمها وتقليص تأثيرها.
البداية من الذات الحقيقية “الأصل”، حيث تحضر داخل الديون بشكل جليٍّ؛ فالتجربة تستدعيها وتتكئ عليها؛ لتأسيس المقاربة الأولى قبل الانطلاق واستخراج “النسخة” المزيفة والمتشظية، يقول في قصيدة (غادرتُ بعضي): “ضُمِّي البقايا من (عليِّـ)ـكِ إنهُ بعد احتضانكِ كم تبسَّم يأسهُ”
ويقول في قصيدة (مشيت نحوي): “مشيت نحوي إليَّ الآن أنعطفُ
علِّي أراني (عليًّا) حينما أقفُ”
انبعاث النسخة المزيفة؛ إيذان برحيل الذات الفعلية، هذا ما تشير إليه قصيدة الديوان الافتتاحية (جهات لغيب ممتلئ):
“الآن أعبرُ من خلالي ربَّما تهبُ القصيدةُ للحقيقةِ سُلَّما
الآن أرحلُ والجهات تلاحقُ المنفى بصمتِ المبعدين تكلُّما
الآن كان غَدي وأمسَ غوايتي وتبعثرَ الناياتِ كي أتلملما”
العبور في القصيدة طقس انتقال من ذات إلى أخرى؛ من حالة الحقيقة إلى حالة إنكارها، فالأصل يختبئ وراء معادله الموضوعي، الذي جاء معنويًّا؛ ليكون قريباً من ذات الشاعر، وملتصقاً بها؛ إذ المسافة بينهما لا شيء؛ من أجل أن يتمكن من رؤية ما يجري من تغيُّرات، ولذا تساءل “ماذا تغيَّر فيَّ”؟، وهو سؤال وجودي سيتكرر عبر تجربة الديوان:
“كُن يا صديقي آخَري الْ ضيَّعتهُ وسط الزّحام وعاد يقرؤني فما
ماذا تغيَّرَ فيَّ كنتُ أمرُّ من قلقِ الحروفِ إلى الرُّؤى متبسِّما”
سؤال عابر ومرتحل مع الذات، لا يمكن الإجابة عنه بسهولة، حيث يتطلب مساعدة من خارجها، لهذا اخترع نسخته المزيَّفة؛ كي يرى الواقع، عبر عينيها، فابتعدت الأصل، مفسحة للنسخة فرصة ممارسة الحياة، ومفضِّلة الركون إلى الصمت التام، القريب من الموت (نبضة لوجع أخير):
“بجانبي آخرِي الممتدُّ من وجعي يُعيدني لي صدىً للحزنِ مرتدَّا”
برزت أهميَّة المعادل الموضوعي، فوجوده ليس عبثيًّا؛ إذ سعى إلى إدراك الوجود، ومحاولة الإجابة عن أسئلته المصيرية؛ أسئلة الهوية، والهدفية من ممارسة الحياة، ففي نهاية القصيدة قدَّم اعترافاً ممزوجاً بالأسى والحزن، مهَّد به لاعترافات لاحقة:
“كلُّ الذين أحبوني خُذِلتُ بهم فعدتُ أجمعُني إذ لم أعُد فردًا”
انكشف سبب تشظية الذات واختراع النسخة المزيفة، فالخذلان الذي رافقها في الحياة، أجبرها على الحذر وعدم الإيمان بالمحيطين، وهذه قمة المأساة للأشخاص العاديين، أما بالنسبة للشاعر؛ فإنها مميتة، وهي مفردة تكررت داخل الديوان، وعملت على رسم ملامح تجربته (خيبة لطين متأرجح):
“وكيف كيفَ تشظَّى دون حيرتهِ يُمسِّد الوجعَ الغافي بطينتهِ
وكيفَ رقَّق صوت الموت في فمهِ حيٌّ تمشَّى على آلام جُثتهِ”
حضور الذات المزيَّفة ألغى الحقيقية، وتسبب في تشظيتها، ومن ثمَّ موتها، الذي سيمتدُّ ويتخذ أشكالاً مختلفة؛ كالغياب، والصمت، والمنفى، مما يشير إلى عمق الأزمة الوجودية واتساعها، وارتباطها بالحزن الشديد، الذي أنتج وجعاً مُرًّا قاسياً (شهقة على ذمة الحزن):
“أنا ما حملتُ الحزن حين حملتُه وجعاً ولكنِّي حملتُ شظيِّهْ”
لشفاء الروح من أوجاع الأسئلة المحيِّرة والعميقة؛ اتجهت إلى البحث عن إجابات؛ تروي ظمأها المعرفي، حيث القلق الوجودي يسكن أرجاءها، ولا يدعها تهنأ بنوم، أو راحة (أسكب الوقت):
“كان حُلماً ومرَّ مرَّ سريعاً هكذا والأحلام تمضي لِتُسرَق”
الأسئلة الوجودية، التي أرهقت الذات، يمكن العثور على إجاباتها داخل الأحلام؛ إذ هي أخصبُ أرضٍ؛ لنموها، واتساعها، وإقامتها علاقات مع جميع أجزاء الحياة ومفرداتها، وبهذا تكون تجربة الديوان قد شارفت على النهاية، ولم يبقَ سوى إعادة الأمور إلى نصابها، عبر إلغاء الذات المزيفة ومحوها، حيث تحقق الهدف من اختراعها (قافية مشرَّدة):
“الآن آخرُك ازدراكَ فلم تكن تعنيه قبلُ فقد مضى وتقيَّأك”
تجربة وجدانية وجودية، اعتمدت أسلوب الاستبطان، فمارست الغوص داخل الذات؛ من أجل استخراج نسخة شبيهة بالأصل، أقامت على أساسها معمارها الفني والدِّلالي، وصولاً إلى استنتاج إجابات أسئلتها المحيِّرة والعميقة، أو على الأقل؛ معرفة أماكن تواجدها.