بيبي أيها القادم من بلاد تعشق كرة القدم، تتنفس اللعب فناً ومتعة منذ 153 عاماً، حيث تم تقديم لعبة كرة القدم من قبل المهاجرين البريطانيين في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، بعد أن استوطنوا العاصمة “بوينس آيرس” وقاموا بنشر اللعبة في ساحاتها، بدءاً من سنة 1867، أي بعد نشوء كرة القدم في بلادهم بـ 3 سنوات، ولم يكتفوا بتمكين الناس من اللعب بل قاموا بتأسيس أشهر الأندية الأرجنتينية وأشاعوا فيها روح التنافس بين اللاعبين والجماهير.
يدلنا تاريخ بلاد التانغو الرياضي على أن أول دوري أرجنتيني أقيم سنة 1891، عام موغل في القدم ومتفوق من حيث الأسبقية على كثير من دول مشاهير اللعبة، وقد صنف بخامس اقدم دوري بعد إنجلترا وأسكتلندا وأيرلندا الشمالية وهولندا، وثامن أقدم اتحاد في العالم الذي يعود تأسيسه إلى سنة 1893، إذاً كرة القدم متجذرة تاريخياً في هذا البلد، عراقة ولدت أجيالاً كروية حتى غدت اللعبة الشعبية الطاغية على بقية الألعاب.
كرة القدم الأرجنتينية حراك اجتماعي، وصناعة وربح اقتصادي، وتصدر لاعبيها إلى مختلف الدول.
بلادك يا فتى تستثمر أموالاً من دخل اللاعبين المغتربين أبناء وطنك وأنت واحد منهم، والمحظوظ من تقع عليه العين ليلعب في القارة العجوز، وجهتهم باتت معروفة بريطانيا أو إسبانيا، أم بلاد الرومان، فأنت أول من تطأها فلم يسبقك أحد من قبل، أنت من مهدت الطريق كأول لاعب أرجنتيني يصل إلى ملاعب إيطاليا، وصلت إليهم والشوق يملأ عيونهم، حيث يظنون أنك منهم لأن كثيراً من المهاجرين الإيطاليين استوطنوا أرضك واندمجوا كبقية الوافدين الأوروبيين مع السكان الأصليين بلاد آبائك (الهنود الحمر)، وأصبحوا مواطنين وتصاهروا مع أجناس أوروبية أخرى، خلطة خلاسية خالية من العرق الأفريقي والآسيوي.
ثمة تعاطف شعبي إيطالي مع الأرجنتين مرده تلك الهجرات الكبيرة التي يعود تاريخها إلى منتصف القرن التاسع عشر من الإيطاليين الفارين من الفقر والمجاعة، وثمة هجرات متقطعة على مدى الخمسة قرون الماضية وزادت خلال الفترة الاستعمارية 1810 (إسبانيا والبرتغال)، ثم أتت الدفعات الأوربية الأخرى.
فغالبية سكان الأرجنتين تعود أصولهم إلى إيطاليا بالدرجة الأولى ثم إسبانيا والبرتغال، وبنسب أقل لكن متفاوتة من فرنسا وأيرلندا وكرواتيا وألمانيا وحتى من إقليم الباسك وجلاسيا، وجزء من الشعوب السلافية، إذاً الشعب الأرجنتيني ثلاثة أرباعه من أصول أوروبية، وتشير الإحصاءات إلى أن نسبة الإيطاليين هي الأعلى من بين كل المهاجرين، حيث يصل عددهم إلى 25 مليون نسمة، وبالتالي يشكلون حوالي 60٪، ويأتي في المرتبة الثانية الإسبان بنسبة 31٪ من سكان الأرجنتين البالغ عددهم 41 مليون نسمة.
والدة مارادونا من أصول سلافي (الصقالبة) وتحديداً من كرواتيا، أما والده فمن السكان الأصليين (الهنود الحمر) الذين يشكلون 8٪، نسبة ضئيلة، بسبب الغزوات الدموية، ومن تبقى هم أحفاد الناجين من محارق المستعمر الإسباني، وهناك أيضاً جنسيات آسيوية وعربية لكنهم يشكلون 1% فقط.
يعتبر الفتى الذهبي “خلاسي”، أي خليط بين قوميتين، أب هندي وأم سلافية، أخذ ملامح وصلابة أبيه الجسمانية ودهاء وفطنة أمه.
وليس الفتى وحده في ميادين الشهرة، كثير من الأعلام الأرجنتينيين الذين يعتبرون أيقونات عالمية تعود أصولهم للقارة العجوز، على سبيل المثال “البابا فرنسيس بابا الفاتيكان”، والمناضل الثوري “تشي جيفارا”، واللاعب الفذ “ليونيل ميسي”، وأعداد كبيرة من السياسيين والعلماء والفنانين والأدباء وغيرهم، لكنهم من مواليد الأرجنتين.
وسط هذه التركيبة السكانية الفسيفسائية للأرجنتين انعكس كل شيء على عموم ثقافة البلد التي هي مزيج من العناصر الأوروبية وتأثيرات الهنود الحمر، لكن الطابع العام أوروبي في العمارة واللغة والديانة والأدب والموسيقى، أما أسلوب لعبة كرة القدم مزيج أيضاً من اللعب اللاتيني الذي يعتمد على المهارات الفردية العالية واللعب الجماعي الأوروبي، وهذا هو طابع الكرة الأرجنتينية المميز والمختلف عن باقي دول أمريكا الجنوبية، ويعتبر المنتخب الأرجنتيني من أقوى المنتخبات على الساحة العالمية.
وإحصائيات اللاعبين الأرجنتينيين المحترفين في شتى أنحاء العالم موزعين في جميع القارات ما عدا قارة أفريقيا، جزء منهم محترف في الدول المجاورة للأرجنتين، أي القارة اللاتينية، لكن أغلبهم يشد الرحال إلى أوروبا، ويبلغ مجموع المحترفين خارجياً 2172، وتعتبر الأرجنتين ثالث دول في العالم تصديراً للاعبين بعد البرازيل الأولى وفرنسا الثانية، هؤلاء يدرون دخلاً لخزائن بلادهم ويماثلهم طاقم من المدربين وخبراء التدريب.
كرة القدم ليست مجرد لعبة، إنما هي صناعة وسياسة واقتصاد وفن وعلم وذاكرة أمم وهوية شعوب، أما أمة العرب وبكل أسف متخلفة عن هذا الركب قياساً بتلك الأمم، التي انطلقت اتحاداتها الرياضية وتأسست قبل نشوء كثير من كياناتنا العربية، بالإضافة لعقول تفكر وتخطط للنهوض بمستوى اللعبة الشعبية الأولى على مستوى العالم، إذاً لا غرابة حينما تأتي المنتخبات العربية في ذيل القائمة، طالما لم تستطع أن تفرق بين “طقها والحقها” وبين استشراف المستقبل!
** يصادف هذا اليوم مرور عام على رحيل الأسطورة، والذاكرة لا تزال تسرد تفاصيل الحكاية.