خرجوا كالجراد المنتشر

تعرض العالم بأسره لجائحة وباء، الفيروس التاجي كورونا المستجد “كوفيد 19” في أوائل عام 2020 ميلادية بدءاً من مدينة ووهان الصينية وإلى إنحاء المعمورة، هنا لا أتكلم عن فلسفة ظهوره إن كان مصنّعاً أو متولداً كما يتناقله البعض فيعود تشخيصه إلى الأطباء في عِلم الأوبئة والمختصين الذين إلى وقت كتابة هذا عاجزون عن تحديد مصدره.

ولكني أستعرضه كحدث عشناه وكيف عايشناه؛ بدون شك لن يمر هذا بمواقفه الاستثنائية المتميزة على الصغير والكبير ما بقي مرور الكرام حدث حياتنا الأكبر حتى الآن إن صح التعبير كلٌ له حكاية معه وذكريات أظهرها أو أخفاها لشيء في نفسه ولكن يُجمع الكل على تساؤل مستغربين كيف لفيروس لا يُرى إلا بتكبيره بالمجهر آلاف المرات فتك بالإنسانية؟ أصاب أكثر من 253 مليوناً حتى 2021/11/16 وما يفوق 5 ملايين حالة وفاة أعجز دولاً عظمى أن تهزمه أو تمنع دخوله إليها وصلت سهامُه إلى أساطيلها المنتشرة في أعالي البحار وقد كانت تخيف بها العالم وتغزوه تسلل إلى سجونها المحصنة دون أن يُرى أو ترصده الكاميرات وما كان للهواء أن يقترب من حدودها إلا بجواز مقروء حطم اقتصادياتها أُجبر الخلائق على البقاء في منازلهم حفاظًا عليهم أو هم حبسوا أنفسهم طواعية خوفاً منه.

كُممت الأفواه احترازياً خلت الشوارع والأسواق عُطلت الأعمال أقفلت دوائر الأنظمة الرسمية مكاتبها لا مدارس لا جامعات صمتت المساجد لا سعي لا طواف لا حج إلى مكة ولا رواح كعبة المسلمين فارغة عرفات يوم الحج الأكبر خالية هدأت أجراس الكنائس أُغلقت كل المعابد أخاف المنحرفين فباتت دور ملاهيهم خاوية أطفأت الطائرات محركاتها وبقيت جاثمة في مطاراتها أقفلت الدول حدودها وفصلت بين مدنها قُطعت السُبل غُيب الأقارب والأحباب عن بعضهم مع قربهم لأفراح لا أتراح لا أعياد لا تشييع لجنائز يَدفن الميت أقرب أرحامه ضاقت الأرض بما رحبت، الإجابة وإن تعددت فالنتيجة واحدة الكل أصيب وإن تباينت الجراح هي الحقيقة دون حاجة لشاهد أو قرينة أصبح وأمسى حديث الساعة دون منازع، غيّر من عاداتنا بدل في سلوكياتنا كشف المُغطى من أسرارنا تعرفنا أكثر على أولادنا وأزواجنا كانت هناك مفاجآت في أخلاقنا إلى الأحسن أو الأسوأ حسب مستوى فهمنا، كنا أشبه بطلاب مدرسة منا من نجح بتفوق ورقى، ومنا مَن فشل وطُرد لغير رجعة، ومَن استفاد من الحجر صحح مساره مَن ساءه الحظر أهمل وأضاع وقت فراغة، وهناك سؤال يُطرح هل قرأنا في مكثنا آية وتعلمنا مسألة ونفس ميسورنا عن معسرنا وأطعم غنينا مسكينًا ويتيماً وأسيراً لست أدري؟ همنا نتطلع إلى يوم ينتهي فيه أمر عدونا المخيف بالتغلب عليه وإنهاء وجوده وتخليص البشرية منه الأمل قادم متى نكتحل بقزح المغيب ونرى قمراً بازغاً شق نوره بين سحاب في ليلٍ بهيم؟ متى نحس بحرارة شمس يوم جديد؟ متى نسلك الطريق وقد عاد في زحام لكنه أسعد الأيام وكأنه عيد نتصافح نجتمع نحتفل متى ومتى؟

انكشف البلاء “إلا ما قل منه” فُك الحجر رُفع الحظر خرجنا من بيوتنا “كالجراد المنتشر” دون سَوق أو دعوة داعٍ آمنين فرحين بنفوس مطمئنة ووجوه ضاحكة مستبشرة لا تعلوها غبرة نعرف بعضنا كل إلى وجهته مِن مُسارع للقاء عزير كان سلامه عليه من بعيد ومسرع لعمله القديم أو باحث عن بديل ومتفقد تجارة يرجو منها المزيد انتشر الناس في الطرقات غصت الأسواق نطقت المساجد بالخطب والصلوات امتلأت أروقة حرم الإله ضاق صحن الطواف لا مكان بين الركن والمقام عدنا لما كنا عليه وكأن شيئاً لم يكن العمر والوقت سمحا لنا بتعويض ما فات ولكن يجب أن ننتبه ونستيقظ من نومة الغافلين لعله {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [١ : سورة الأنبياء] ربما نحن معنيون بأكبر من الوباء وما هذه الأجراس إلا إنذار ودواء لداء فانشغلنا بعودة حياتنا الفانية وتناسينا آخرتنا الباقية قد تكون هذه رسالة سماوية دون وحي ولا رسول مضمونها يقول تنبهوا يا عبادي وتذكروا يأتي يوم {خُشَّعًا أَبْصَٰرُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [سورة القمر : 7} من شدة ذلك اليوم النفوس فزعة خائفة لا تعلم أين المصير أين تتجه؟ مختلط بعضها ببعض {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [2 : سورة الحج].

متى كانت الأم تنشغل عن ولدها وتنساه وهو لغير فطام وقد كانت تفديه بنفسها إلا في هذا اليوم إن هو في الدنيا أو لتهويل وتعظيم ما فيه من الشدائد إن كان في الآخرة مواقف يصعب تحملها {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ۖ يَقُولُ الْكٰفِرُونَ هٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [8 : سورة القمر] ماذا قدمنا وعملنا لهذا اليوم العسر؟ اليوم غير الأمس العمر والوقت فقدناهما وقُيدت حريتنا الوجهة غير ما توجهنا عند خروجنا من حظرنا هناك فرحون ندل الطريق هنا مذهولون لا ندري جهة المسير عالَمٌ علينا غريب وجديد مسيرون فيه لا مخيرون الكل موجَه لما قدم مِن أعمال فُصلت أمس مَن يعمل اليوم ماذا عمل يعقبه ثواب أو عقاب بأمر تنفيذ شتان بين الخروجين فرق بين اليومين هناك متى نخرج وكنا في بيوتنا منعمين هنا نتمنى البقاء في أجداثنا وإن كنا لقرون متربين أليس فيما نحن فيه عظة؟ إلى متى ونحن غافلون؟ نعد لرشدنا ونكن من المهتدين الفائزين قبل الفوات ونقول ربي ارجعون {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [سورة المؤمنون 99 – 100] الجواب أنه برزخ إلى يوم يبعثون ومتابعة لما فيه {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [سورة المؤمنون-101] نعم يوم لا أنساب بيننا ولا ينفع أحدٌ أحداً {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ -37} [سورة عبس] نعم الكل مشغول بما يكفيه لا يرى غيره من هول ما فيه وإن قرب منه في الدنيا نسباً أو سبباً أو مكانةً.



error: المحتوي محمي