ثيمات «السر والانتقام» في قصص ستيفان زفايغ

تعتمد البنية السردية في قصص الكاتب النمساوي “ستيفان زفايغ”، على سبر أغوار النفس الإنسانية، واستكناه التفاعلات داخلها، فهو يسير في بنائه للشخصية، على طريقة الكتاب الروس، أمثال: دوستويفسكي وتولستوي وغوغول، إذ يقدمها عبر مختلف الجوانب، ومن منظورات متعددة، ولعل أهم عنصرين من عناصر البناء الفني للشخصيات؛ تتمثل في: أ. السر. ب. الانتقام.

“السر والانتقام”؛ ثيمتان تحركان قصص زفايغ، مع وجود عوامل نفسية مساعدة؛ كالحب والكره والخوف والشفقة، التي تظل تشتعل بداخل الروح الإنسانية، بكل تناقضاتها وانفجاراتها، وهو لا يكتفي بإحضار نماذج بشرية، بل يلجأ كذلك إلى إحضار نماذج حيوانية، تتصف بذات الصفات الإنسانية.

تبرز في قصة “السر الحارق” شخصية البارون النمساوي؛ الدبلوماسي المثابر الذي يصل إلى هدفه، مهما اعترضته من مشكلات، إذ أخذ إجازة للراحة والاستجمام، لكن بسبب وصوله المتأخر بعد انتهاء الموسم السياحي، لم يجد امرأة تملأ وقته بالمتع والملاطفات؛ إذ “إنه رجل لا يفوت على نفسه أي فرصة للمتعة، عيناه تتفحصان كل امرأة يراها”، وها هو الآن يعاني من الوحدة، التي “تجعل منه كائناً متجمداً، لا فائدة منه على الإطلاق”.

تشاء الصدف أن يلتقي بالفتى “إدغار”؛ صاحب الاثني عشر عاماً، ووالدته الشابة الجميلة، فيبذل جهداً كبيراً؛ لإيقاع الفتى في حبائله ومصادقته، وسيتخذه طريقاً للوصول إلى الأم، التي توثقت العلاقة بينها وبين البارون، الذي تنكَّر للفتى ولم يعد يلاطفه ويهتم به كما في بداية تعارفهما.

أدرك “إدغار” أن هنالك “سرًّا” وراء التغيُّر المفاجئ للبارون، ولم يكتشف نواياه في إغوائها، فكل ما علمه أنهما يقضيان وقتهما معاً في نزهات خارجية، أو جلسات داخلية، ولم يعودا يأبهان لوجوده، بل لا يرغبان في حضوره، وهنا اشتعلت شرارة “الانتقام” داخله، فاندفع وأطاح بالبارون، وقام بركله وضربه، وحين طلبت منه الاعتذار عن الفضيحة التي تسبب بها؛ رفض وصفعها، ثم هرب إلى منزل جدته بالقطار.

أما قصة “فوضى الأحاسيس”، فتحكي عن “رولان”؛ شاب في مقتبل العمر، انتسب لجامعة برلين، لكنه خلال الفصل الأول؛ فشل فشلاً ذريعاً، بسبب انغماسه في الملذات واللهو، وحين جاء والده؛ عاقبه وألقى عليه باللائمة، فأحس بذنبه، ووعده بأن يجتهد أكثر.

انتقل بعدها إلى جامعة أخرى، التقى خلالها بأستاذ اللغة الإنجليزية، فافتتن به وبأسلوبه في الحديث، وانعقدت بينهما صداقة متينة، توجت بسكنه في علِّية المنزل، الذي يسكن فيه الأستاذ، وهناك تعرف إليه عن قرب، وبدأت لقاءاتهما المسائية، كل يوم تقريباً، إلى نهاية الفصل الدراسي، وانتهت بأن أنجز كتابة القسم الأول من كتاب الأدب الإنجليزي في عصر شكسبير، حيث كان معجباً به بشدة.

في الأثناء تعرف على الزوجة الشابة، وتعجب من فارق السن بينهما، ولم يجد جواباً، حينما حاول معرفة السبب، لكن ما أثار انتباهه أكثر؛ غياب الأستاذ عن الجامعة والمنزل؛ إذ اختفى دون ترك أثر، سوى رسالة للجامعة؛ يخبرها بغيابه، وحين سأل الزوجة؛ أجابت باندهاش: “ألا تعلم أنه غادر هذا الصباح على متن القطار؟ أجبتُ متلعثماً، غادر إلى أين؟ انقبض وجهها على الفور”، واستدركت: “يبدو أنها رحلة أخرى من رحلاته الغريبة”، هنا أحس بوجود “سرٍّ” وراء اختفائه المفاجئ.

ظل يبحث عن إجابات مقنعة لتصرفات الأستاذ، لكنه لم يجد شيئاً، فأصيب بَحيرة، استمرت تنهش داخله بعنف، وفي الأثناء توطدت علاقته بالزوجة الشابة، وغادر معها لقضاء وقت ممتع رفقة صديقها البروفيسور وزوجته، التي أجابته حينما سألها عن الأستاذ: “سنجذّف ونسبح وننسى كل تلك السّفاسف والتفاهات”، فأدرك أن لا جدوى ترجى من سؤاله.

علاقة الشاب بالزوجة الشابة انتهت إلى وقوعهما في الخطيئة، حيث رآها أسلوباً جيداً للـ”انتقام”؛ جرَّاء إهاناته المتكررة، وتجاهله المستمر لعطاءاته ومساعدته في تدوين كتابه، لكن ما حدث تالياً لم يكن في الحسبان، فالأستاذ ليس غاضباً؛ لأنه لا يميل للنساء، بل للشبان أمثاله، واعترف بحبه الكبير لرولان، ثم طلب منه المغادرة؛ كي يبقى الحب نقيًّا وطاهراً.

قصة آموك؛ تحكي عن مرض نفسي يصيب المرء، بحيث تجعله ينطلق إلى الشارع بأقصى سرعة، حاملاً في يده سكيناً أو مسدساً، ليقتل كل من تصادف وجوده، ولا يمكن إيقافه إلا بصرعه وإسقاطه، فالبطل يلتقي على ظهر السفينة القادمة من “كالكوتا” براكب مختبئ؛ لا يرغب معرفة أحد بوجوده “سأكون مديناً لك إذا لم تخبر أحداً أنك رأيتني على متن الباخرة”، مما يثير لديه شكوكاً، حول إخفائه “سرًّا”؛ ليكتشف فيما بعد حكايته المأساوية.

عمل طبيباً في إحدى مستعمرات هولندا؛ بسبب أخذه “أموالاً من صندوق المستشفى”؛ لإنفاقها على امرأة، حيث بقي في منفاه “سبع سنوات”، عاش خلالها “مع الغرباء والحيوانات تقريبًا”، إلى أن التقى زوجة أحد الأثرياء، حينما جاءته تطلب منه “إجهاضها”، بعد ما وصلتها سمعته الطبية، لكنه رفض خرق القانون، فأغرته بالمال، إلا أنه استمر بالرفض، وهنا غادرت المرأة برفقة خادمها.

استفاق متأخراً على صوت ضميره الداخلي بوجوب مساعدة المرأة، فتبعها، لكنها تمكنت من صعود السيارة والذهاب، فما كان منه إلا أخذ الخادم، الذي استطاع الإمساك به، إلى مفوض المنطقة، حيث اعترف باسمه واسم سيدته وأنها تسكن العاصمة.

رأى من واجبه إنقاذ شرفها، عقب علمه بالسر، فتوجه من فوره إلى العاصمة، وحاول التقاءها؛ لعرض مساعدته، لكن محاولاته فشلت، فما كان منه إلا أن بعث برسالة طويلة أخبرها بأنه سينتقم من نفسه؛ إن لم توافق على قبول مساعدته، وفعلاً انتظرها واضعاً المسدس على الطاولة، لكنها لم تأتِ، بل جاء الخادم برسالة تشكره وتعلمه بتأخره، وأنها ستلتقيه قريباً.

هدأ الطبيب وتناول مشروباً، ولم يمضِ وقت طويل، حتى طُرق الباب، وطُلب منه الحضور على وجه السرعة؛ ليكتشف أن سيدته أجرت عملية “إجهاض” لدى إحدى الآسيويات، وهي تفقد دماءها، فتم نقلها على وجه السرعة إلى منزلها، وقبل وفاتها؛ وعدها بالحفاظ على شرفها، وعدم إفشاء “السر”، وهو ما جعله يلاحق جثتها على المركب، إذ ستنقل إلى إنجلترا لدفنها، وربما سيُجري زوجها فحصاً لمعرفة سبب وفاتها، هذا الهاجس؛ دفعه إلى إسقاط التابوت في البحر، بحيث يتعذر إنقاذه، “بالتزامن مع ذلك ظهرت في الجرائد قصة قصيرة أخرى تعلن عن العثور على جثة رجل في الأربعين من العمر”، قتل نفسه “انتقاماً”؛ كي لا ينكشف “سرُّ” ما حصل.

تنتقل البطولة إلى عالم الحيوانات في قصة “هل فعلها”، فالكلب “بونتو” استشعر وجود “سرٍّ” خفي، فحاول اكتشافه، البداية من “المصرفي”، الذي يهب الكلب الكثير من الحنان والرعاية والاهتمام؛ لأنه أشبع عاطفته إلى الأبوة، إذ لم تكن زوجته أنجبت، ولكن بعد مضي مدة تضاءل الاهتمام، حينما بدأ بطنها بالانتفاخ.

أصبح المصرفي لا يلقي بالا لـ”بونتو”، الذي أُصيب بنوبات غضب من وراء هذه التصرفات، أراد معرفة “السر”، لكنه فشل، واستمر يعاني الانهيار الداخلي والوساوس، كما تولدت لديه رغبة في “الانتقام”، من الذي أخذ مكانته وحرمه الاهتمام.

تفاجأ “بونتو” باجتماع الأسرة والجيران، وتحلقهم بالداخل، ورفضهم لوجوده، مما جعله يطوف بالبيت؛ كالمسعور، ثم ندّت صرخة طفلة تشي بقدومها للحياة، وهنا استطاع الدخول، وحينما شاهد الطفلة بين يدي أبيها، هجم عليها يريد قتلها، فما كان من المصرفي إلا حماية ابنته، عبر الإمساك بالكلب وتقييده.

تقرر إرسال “بونتو” بعيداً، إلى جزار في العاصمة، لكنه عاد وصار يراقب الطفلة، إلى أن ظفر بها ذات يوم وحيدة بداخل عربتها، فاصطدم بها بقوة، ودفعها للسقوط في النهر، لتغرق وتموت، حدث كل ذلك دون علم أحد، وبهذا يكون قد حقق “انتقامـه”.

أما قصة “ليبوريلا”، فتحكي عن فتاة فقيرة، نشأت على الطاعة التامة لسيدها، انتقلت من الريف؛ لتخدم سيدتها وزوجها في المدينة، إذ وجدتها قليلة الكلام ومطيعة، ولا تأبه لما يحصل من مشكلات بينهما.

استمرت “ليبوريلا” في المراقبة الصامتة لما يحدث بين الزوجين، وكالكلب الوفي الذي يرضى بالقليل؛ فبعد أن أغدق عليها الزوج ببعض كلمات الشكر والامتنان، ومسح على كتفها؛ أحست بعاطفة عميقة تجاهه، كأنه أحد “القدِّيسين”، فأخذت تطيعه وتتواطأ معه.

حينما اشتدت الخلافات، وأودعت الزوجة المصحة؛ بسبب تردي حالتها، بدأ الزوج في استضافة فتيات صغيرات، كانت “ليبوريلا” مَن تُسهل أمورهن وتساعدهن، استمرت على تلك الحال؛ إلى أن تعافت الزوجة وعادت للمنزل مهتاجة، من الفضائح التي وصلت إلى كل الأسماع، فهرب الزوج وغادر المنزل.

بقيت “ليبوريلا” برفقة الزوجة، التي لم يمضِ شهر إلا ووصل نبأ انتحارها بالغاز، ورغم كل الشكوك، لم يوجد دليل ضدها، فاستمرت بالعمل، لكن الزوج الذي شك في أمرها، غيّر من تعامله معها، فأحضر خادماً كهلاً كي يتجنب الالتقاء بها، وهنا بدأت تتساءل عن “سرِّ” التغير المفاجئ.

أخبر الخادم الكهل “ليبوريلا” بأنها سوف تُصرف من العمل، فشعرت بالصدمة، واتجهت فوراً إلى السيد، الذي أكَّد ذلك، فخرجت واتجهت لغرفتها، وهناك جمعت أغراضها الثمينة ورواتبها في صندوق، حملته ووضعته على المكتب، ثم غادرت، ليكتشفوا فيما بعد أنها “انتقمــت” من نفسها، حيث انتحرت بـ”إلقاء نفسها من فوق جسر إلى نهر الدانوب”.

“السر والانتقام” ثيمتان سرديتان تقوم عليهما أعمال ستيفان زفايغ؛ الذي استطاع بناء عوالمه عبرهما، ومن خلالهما، فقصصه المعتمدة على استكشاف النفس الإنسانية وأسرارها، وجدت في هاتين الثيمتين؛ بوابة للولوج إلى متاهات المشاعر والأحاسيس المتضاربة، فتمكن بذلك من فك شفرة العلاقات المتشابكة، في دواخل البشر، وإخراجها أمام القارئ، لتتجسد في أحاديث وتصرفات أبطاله.



error: المحتوي محمي