الخطاب الديني هو فكر إنساني يحتاج إلى نضج من خلال تجارب البشر، إذا التزم بجملة من المعطيات:
الحرية المكبّلة:
يرى الشهيد السيد محمد باقر الصدر أنّ الحرية في المفهوم الإسلامي ثورة، وهي ليست ثورة على الأغلال والقيود بشكلها الظاهري فحسب، بل على جذورها النفسية والفكرية، وبهذا كفل الإسلام للإنسان أرقى وأسمى أشكال الحرية التي ذاقها على مرّ التاريخ[1].
ومن بين الروايات المهمة التي وردت عن الإمام الصادق (ع)، وهو حديث صحيح السند، فإنه (ع) يعتبر أنّ مسألة الحرية تنبع من حرية العقل والإرادة، فلا تكون حراً إلا إذا ملكت عقلك وإرادتك وقرارك، بحيث لا تسقط أمام الضغوط ولا تنهار، يقول (ع): “إِنَّ الْحُرَّ حُرٌّ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، إِنْ نَابَتْهُ نَائِبَةٌ صَبَرَ لَهَا؛ وَإِنْ تَدَاكَّتْ (أي: اجتمعت) عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ لَمْ تَكْسِرْهُ، وَإِنْ أُسِرَ وَقُهِرَ وَاسْتُبْدِلَ بِالْيُسْرِ عُسْراً -كَمَا كَانَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ الْأَمِينُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ- لَمْ يَضْرُرْ حُرِّيَّتَهُ أَنِ اسْتُعْبِدَ وَقُهِرَ وَأُسِرَ، وَلَمْ تَضْرُرْهُ ظُلْمَةُ الْجُبِّ وَوَحْشَتُهُ وَمَا نَالَهُ أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ؛ فَجَعَلَ الْجَبَّارَ الْعَاتِيَ لَهُ عَبْداً بَعْدَ إِذْ كَانَ لَهُ مَالِكاً، فَأَرْسَلَهُ وَرَحِمَ بِهِ أُمَّةً، وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ يُعَقِّبُ خَيْراً؛ فَاصْبِرُوا وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الصَّبْرِ تُوجَرُوا”[2].
فلقد ركز الإمام (ع) على مفهوم الحرية الداخلية، والأسس التي تقوم عليها، وذلك قبل أن يجري التداول في هذه القيمة الأساسية في العصر المنصرم مع علماء من الغرب أمثال (جان بول سارتر)، حيث أكَّد الإمام أنّ الحرية لا تأتي من الخارج وإنّما تأتي من الداخل، فأن تكون حرّاً هو أن تملك إرادتك في داخل كيانك حتى لو كنت في الزنزانة، أمّا إذا كنت لا تملك إرادتك فأنت عبدٌ حتى لو كنت في رحاب الصحراء، فقضية الحرية ليست قضية جسد يمكن أن يتحرك كما يشاء أو لا، بل هي قضية إرادة تتصلّب وتقوى وتركز الموقف حتى لو كانت الدنيا تضغط عليها.
وهذا ما عبّر عنه الإمام علي (ع) أروع تعبير، فقال مخاطباً الإنسان (الأنا): “لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً”. بينما الخليفة الثاني عمر بن الخطاب خاطب الإنسان (الآخر): “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”.
ويرى الأديب المفكر جورج جرداق أنّ الحرية بمفهوم الإمام علي (ع) “هي التي تخلق الثورات وتنشئ الحضارات وتقيم علاقات الناس على أسس التعاون الخير، وتربط الأفراد بالجماعات بما يشدهم إلى الخير”[3].
ونحن نفرق بين عقلين:
أحدهما: العقل النقدي الذي لا ينفك عن الحراك ولا يستسلم للأمر الواقع ولا يتهيب الإبداع والتجديد، ولا يتجمد في حدود ما عقله السلف أو استنبطوه، إنّ خاصية القلق المعرفي هي التي تمنح العقل فاعليته وحيويته وتجعل منه طاقة ابداع متدفقة لا ينضب معينها.
وثانيهما: العقل المحاصر بالنزعة النصوصية والمثقل بسطوة آراء السلف والمسكون بهاجس الإجماع والشهرة، والمكبل بأصفاد التفكير الجمعي أو بأغلال المصالح والغرائز والهوى، والمثخن بسياط التفكير والتعنيف، أمّا هذا فهو عقل مسترخ مستقيل لا يتوقع منه إبداع ولا يرجى منه تغيير، فهو يعيش في سبات عميق وعلينا أن نستعيذ منه كما استعاذ علي (ع) في قوله: “نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَ قُبْحِ الزَّلَلِ”[4].
أصالة الصحة في البعد العقدي لكل مذهب:
يتفق علماء الفريقين أنّ المجتهد في الفروع إذا بذل جهده في استنباط الحكم الشرعي ولكنه أخطئ فهو معذور ومأجور.
وهذا الكلام يجري بعينه في المجتهد في الأصول لوحدة الملاك والمناط. وقد اختار بعض أعلامنا هذا الرأي ومنهم الشيخ البهائي العاملي (ت 1033هـ)، حيث يقول: “إنَّ المكلَّف إذا بذل جهده في تحصيل الدليل فليس عليه شيء وإن كان مخطئاً في اعتقاده، ولا يخلد في النار وإن كان بخلاف أهل الحق”[5].
ويرى الدكتور علي الوردي، أنَّ هذه النظرية ذات أهمية غير قليلة، وإن كانت تبدو للناظر السطحي بسيطة، وأنها في الواقع تنسجم مع أحداث ما توصلت إليه الأبحاث النفسية والاجتماعية[6].
والظاهر أنها تنسجم -أيضاً- مع قوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)؛ ولأنَّ تعذيبه مع بذله الجهد والطاقة من غير تقصير قبيح.
ويعزو الدكتور الوردي هذا الرأي إلى أنَّ “كلَّ مفكر صادق النظر إذا اطلع على العقائد المختلفة يستطيع أن يكتشف فيها حقيقة واضحة، هي أنّ كل ذي عقيدة يؤمن بصحة عقيدته إيماناً قاطعاً لا شك فيه، وأنه مهما تأمل وفكر فلا يقدر أن يخرج بتفكيره عن الأدلة والقوالب المنطقية الملائمة لعقيدته، ومعنى هذا أنَّ الإنسان لا يلام على أية عقيدة اكتسبها من محيطه الاجتماعي فنشأ عليها، إذ إنَّ تلك العقيدة صحيحة في نظره كمثل ما تكون عقيدتنا صحيحة في نظرنا، فلو أننا نشأنا في محيطه لاعتقدنا بمثل عقيدته، وكذلك لو نشأ هو في محيطنا لاعتقد بمثل عقيدتنا”[7].
إنَّ هذا الشخص معذور ولا يستحق العقاب، فهو بحكم القاصر، وذلك لقبح إدانة مَن لم تقم عليه الحجة أو مَن كان قاطعاً بصحة معتقده ولا يخطر في باله صحة الدين الجديد، شريطة أن لا يجحد ما لم يقتنع به؛ لأنَّ عدم الاقتناع بشيء لا يبرر نفيه، كما أنَّ عدم الوجدان لا يدخل على عدم الوجود، فلا مبرر منطقياً وعقلياً لمن لم يقتنع بإمامة أهل البيت (ع) أن يجحدها وينفيها، وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): “لَوْ أَنَّ الْعِبَادَ إِذَا جَهِلُوا وَقَفُوا وَلَمْ يَجْحَدُوا لَمْ يَكْفُرُوا”[8] وفي صحيحة أبي بصير قال (ع): “إِنَّمَا يَكْفُرُ إِذَا جَحَدَ”[9].
ألم يكن هدي الإمام علي (ع) ساطعاً كالشمس، ومع ذلك عميت عنه أبصار الخوارج الذين لم يكونوا -أو بعضهم على الأقل- من ذوي النوايا السيئة بقدر ما كانوا مضلَّلين، كما تُنبئ بذلك كلمة الإمام علي (ع) الخالدة في شأنهم: “لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ”[10]. فأمير المؤمنين (ع) كان يحكم بإسلام الخوارج رغم إنكارهم لإمامته وخروجهم عليه بعد وقعة التحكيم.
ويؤكده الحديث عن إسماعيل الْجُعْفِي، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) عَنِ الدِّينِ الَّذِي لَا يَسَعُ الْعِبَادَ جَهْلُهُ؟
فقال (ع): “الدِّينُ وَاسِعٌ، وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ ضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ جَهْلِهِمْ”.
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَأُحَدِّثُكَ بِدِينِيَ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ؟
فقال (ع): “بَلَى”
قُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَأَتَوَلَّاكُمْ، وَأَبْرَأُ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَمَنْ رَكِبَ رِقَابَكُمْ وَتَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ، وَظَلَمَكُمْ حَقَّكُمْ.
فقال (ع): “مَا جَهِلْتَ شَيْئاً، هُوَ -وَاللهِ- الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ”.
قُلْتُ: فَهَلْ سَلِمَ أَحَدٌ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْأَمْرَ؟
فقال (ع): “لَا، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ”.
قُلْتُ: مَنْ هُمْ؟!
قال (ع): “نِسَاؤُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ.. ثُمَّ قَالَ: “أَرَأَيْتَ أُمَّ أَيْمَنَ؟ فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا كَانَتْ تَعْرِفُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ”[11].
فقوله (ع): “الدِّينُ وَاسِعٌ” يراد به أنّه لا يتحقق الخروج من دين الإسلام بقليل من العقائد والأعمال كما هو مذهب الخوارج، حيث حكموا بكفر مرتكب المعاصي وخاضوا في المسائل الدقيقة فجعلوها من أجزاء الإيمان.
وليس معنى “الدِّينُ وَاسِعٌ” أنه مهيمنٌ على العقل، وأنَّ النص قبل العقل!! فقد سأل أحد أئمة اللغة، وهو يعقوب بن إسحاق بن السكيت (ت 244هـ)، الإمام علي بن محمد الهادي (ع): مَا الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ الْيَوْمَ؟!
فأجابه (ع): “الْعَقْلُ؛ يَعْرَفُ بِهِ الصَّادِقَ عَلَى اللهِ فَيُصَدِّقُهُ، وَالْكَاذِبَ عَلَى اللهِ فَيُكَذِّبُهُ”.
فالعقل هو حجةٌ مِن الله على الناس، وهو شعار القرآن، وشعار الأنبياء، وشعار أتباعهم، ويجب علينا -كأتباع لهذه الديانات- أن لا نتحرك في حياتنا في خطِّ غرائزنا وعواطفنا، بل نتحرك من خلال عقولهنا، فـ”لَا يَغُشُّ الْعَقْلُ مَنِ اسْتَنْصَحَهُ”.
واعتبر الشريف المرتضى أنَّ دليل العقل ليس فيه (احتمال ومجاز وتأويل)، خلافاً للنص، ومن ثم لا بدَّ من صرف كلِّ ظاهر للنص بما يوافق دليل العقل(أمالي الشريف المرتضى: ج 2 ص 125-126). وصرح قائلاً: “رددنا كلَّ مشتبه من آيات وغيرها إلى أدلة العقول لأنها أصل”(رسائل الشريف المرتضى: ج 2 ص 56).
وهو نفس ما قرَّره تلميذه الشيخ الطوسي، إذ أكدَّ هذا المعنى وهو أنَّ ظواهر النصوص تبنى على أدلة العقول لا العكس، وبالتالي لا بدَّ من تأويل هذه الظواهر عند معارضتها للعقل(الاقتصاد في الاعتقاد: ص 162؛ الرسائل العشر: ص 325).
فإذا أردت أن تؤكد مرجعية (نص) من النصوص فعليك أن تدرسه دراسة تعقل؛ لأنك لا تستطيع أن ترتبط بأيِّ نص من دون وعي!!
واستثناء المستضعفين في كلام الإمام الباقر (ع) ناظر إلى قوله تعالى: {… فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (النساء: 97-99).
ورب قائل يقول: بأنّ دائرة المستضعف -كما يستفاد من الآية والروايات- أضيق مما ذكر بكثير، فهو لا يشمل إلا ذوي القدرات العقلية المتواضعة من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً كما جاء في الآية المتقدمة، وفي الحديث الصحيح عن زُرَارَة، عن أبي جعفر (ع)، قال: “الْمُسْتَضْعَفُونَ: الَّذِينَ {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}” ثم أضاف (ع): “لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَا يَكْفُرُونَ؛ الصِّبْيَانُ وَأَشْبَاهُ عُقُولِ الصِّبْيَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ”[12].
وأما مَن كان ذا قدرة على التمييز ولديه معرفة باختلاف الأديان وتعددها فلا يكون مستضعفاً ولا يتناوله حكمه، وقد ورد في الحديث الصحيح عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (ع): “مَنْ عَرَفَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فَلَيْسَ بِمُسْتَضْعَفٍ”[13].
ولنا أن نعلق على ذلك: بأنَّ هذه الروايات ناظرة إلى الآية الشريفة، ولو سلمنا أنَّ هذه الروايات تفسيرية وليست مصداقية، لكن يبقى: أنَّ الآية كالروايات لا مفهوم لها يدل على نفي العفو عن غير المستضعف، وحيث إنَّ الدليل قائم على عدم مؤاخذة الجاهل القاصر فيكون مشمولاً لحكم الآية وإن لم يكن داخلاً في موضوعها ومنطوقها.
إنَّ أكثر الناس ممن لا يؤمنون بالحقائق الدينية جاهلون قاصرون لا مقصرون إلا في معرفة الله سبحانه، فإنَّ الجاهل بوجوده تعالى أو وحدانيته مقصر لا قاصر -غالباً- لأنَّ معرفته تعالى وكذا توحيده -على نحو الإجمال دون تفاصيل التوحيد- من الأمور الفطرية، كما أنَّ التأمل في السماوات والأرض وما فيهما من أسرار ونظم تهدي إلى الإيمان به تعالى والإقرار بوحدانيته، أما فيما عدا ذلك من العقائد كالنبوة والإمامة والمعاد فإنَّ وجود الجاهل القاصر بشأنها كثير.
وهذا ما أشار له الإمام الخميني؛ إذ يقول في شأن الكفار: “إنَّ أكثرهم -إلا ما قلَّ وندر- جهَّال قاصرون لا مقصرون. أمّا عوامهم فظاهر لعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في أذهانهم، بل هل قاطعون بصحة مذهبهم وبطلان ساير المذاهب، نظير عوام المسلمين، فكما أنّ عوامنا عالمون بصحة مذهبهم وبطلان ساير المذاهب من غير انقداح خلافٍ في أذهانهم لأجل التلقين والنشوء في محيط الإسلام، كذلك عوامهم من غير فرقٍ بينهما من هذه الجهة، والقاطع معذور في متابعة قطعه ولا يكون عاصياً أو آثماً ولا تصح عقوبته في متابعته[14]. وأمّا غير عوامهم فالغالب فيهم أنهم بواسطة التلقينات من أوّل الطفولة، والنشوء في محيط الكفر: صاروا جازمين ومعتقدين بمذاهبهم الباطلة بحيث كل ما ورد على خلافها ردّوها بعقولهم المجبولة على خلاف الحق من بدء نشؤهم، فالعالم اليهودي والنصراني كالعالم المسلم لا يرى حجة الغير صحيحة وصار بطلانها كالضروري له؛ لكون صحة مذهبه ضرورية لديه لا يحتمل خلافه. نعم، فيهم مَن يكون مقصراً لو احتمل خلاف مذهبه… وبالجملة: إنَّ الكفار كجهّال المسلمين منهم قاصر وهم الغالب، ومنهم مقصِّر… والكفار معاقبون على الأصول والفروع لكن مع قيام الحجة عليهم لا مطلقاً، فكما أنَّ كون المسلمين معاقبين على الفروع ليس معناه أنهم معاقبون عليها سواء كانوا قاصرين أم مقصِّرين، كذلك الكفار طابق النعل بالنعل بحكم العقل وأصول العدلية”[15].
ومما يجدر ذكره أنَّ الفقيه الشيخ محمد جواد مغنية تبنى رأي الشيخ البهائي، وكذلك هو رأي المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله.
وهذا ما يستفاد نسبته إلى السيد أبو القاسم الخوئي، فهو وإن كان يرى أنّ خلافة أهل البيت (ع) وقيادتهم للأمة من ضرورات المذهب الجعفري، وهو ما اقتنع وآمن به شيعة أهل البيت (ع)، إلا أنّ بقية المسلمين عندهم قناعة ورأي آخر، وهذا لا يوجب الكفر[16].
ونُسب هذا الرأي -أيضاً- إلى الجاحظ (ت 255هـ)؛ قال الدكتور علي الوردي: “ومما يجدر ذكره أنَّ الجاحظ كان قد جاء بما يشبه هذه النظرية التي جاء بها البهائي، ولكنها حوربت ثم ضاعت، ولم يبقَ منها إلا مقتطفات جزئية مما رواه المنتقدون لها. كان من رأي الجاحظ أنّ الشخص الأمي الذي يعيش في قرية نائية، أو محيط اجتماعي منعزل، نراه لا يعرف من العقائد غير العقيدة التي نشأ عليها، وهو إذاً لا يستطيع أن يفكر إلا في نطاق تلك العقيدة، أنه غير ملوم في ذلك ولا يعاقبه الله عليه، فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ويستخلص الجاحظ من هذا أنَّ الله لا يعاقب من الكفار إلا أولئك المعاندين الذين يدركون الحق ويحيدون عنه حرصاً على جاه أو رئاسة أو نحو ذلك من الأسباب، أما الباقون منهم -وهم الذين يمثلون سواد الناس وأكثريتهم- فإنّ من الظلم عقابهم لأنهم لا يفهمون الحق إلا من خلال العادات والعقائد التي نشأوا عليها؛ والله ليس بظلام للعبيد”[17].
وفي هذه الحالة لا يختلف الإنسان الديني عن الإنسان الآخر، ولكن المسألة التي ترتبط بها، هي مسألة المضمون الديني. فالمضمون الديني يربط المسائل بالله، ولكننا في الوقت نفسه، نجد أنّ هذه المسألة عندما تدخل في المضمون الفكري، فإنك تعثر على إمكانية وجود أكثر من اجتهاد في فهم إرادة الله وفهم شريعة الله، ولهذا فإنّ المطلق في الفكر الديني يبقى محدوداً عندما يتحرك في تفصيلات المسألة الفكرية.
تحديد معايير الخطأ والصواب:
إنّ ما يحدد الخطأ والصواب في الإسلام، هو مسألة البرهان والحجة، وفي سياقهما تتأكد المسألة العقلائية حتى في دراسة وتقويم المضمون الديني، كذلك يتم تحديد كون هذا الأمر خطأ أو صواباً من حيث انسجامه أو عدم انسجامه مع الخطوط الأساسية للدين.
إننا نجد في القرآن الكريم عدة عناوين بهذا المعنى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل: 64) {هَا أَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} (آل عمران: 66). إنه يؤكد على العلمية بمعنى اليقين الوجداني كأساس للحركة: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الاسراء: 36). لذلك فإنّ مسألة عقلانية الجدل في عملية الخطأ والصواب التي تعتمد على مفردات الفكر والبرهان وما إلى ذلك، تمثل رقابة في المجال الفكري.
وعندما نريد أن ننزل إلى المستوى الواقعي، نجد أن هناك عناوين أيضاً للواقع، فالحاكم ليس مطلقاً، فالحاكم في الإسلام لا يملك سلطة مطلقة، ليس عندنا في الإسلام حاكم يقف أمام الناس ويقول لهم: أنا أحكم باسم الله وليس لكم الاعتراض. إنه مرهون بالسقف الذي حدّده رسول الله (ص) عندما قال في آخر حياته: “أيها الناس سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون علي بشيء، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن، ولم أحرّم إلا ما حرم القرآن”[18]. أي أنَّ هناك برنامجاً موضوعياً بين أيدي الناس، يناقشون من خلاله الحاكم، في حركته، حتى لو كان نبياً.
ونستطيع أن نؤكد أن لا كهنوت في فهم القرآن وتفسيره، وليس هناك فئة من علماء الدين في الإسلام تملك -وحدها- شرعية تفسير القرآن وشرعية تفسير السنّة (بقول مطلق) خصوصاً إذا كان هناك آخرون يملكون ثقافة في اللغة العربية وجوانب العلم الأخرى، لذلك فإنّ المثقف الملّم بالأدوات التي تتيح له فهم النص الإسلامي، يستطيع أن يفهم ويستنتج، فالقرآن مشاع لكل الناس، والسنّة مشاع لكل الناس أيضاً وقد يخطئ المرء فيهما، فينبه إلى خطئه، وقد يصيب، تماماً كما هو الحال في مجال العلم وأحوال المختصين به.
الدين ليس سلطة:
الفكرة في الإسلام {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256)، إنّ المسالة هي أن الله لا يريد لنا أن نكره إنساناً على الالتزام بأية قناعة مصدرها الفكر.
إنّ الله يريد أن يوحي إلينا أنّ مسألة الدين ليست من المسائل التي يمكن لإنسان أن يكره إنساناً عليها، وإنّ مسألة الإيمان ليست من المسائل التي يمكن أن تخضع للضغط، باعتبار أنّ قصة دينك فيما هو الفكر الديني هي قصة وجدانك في ما تختزنه من كل المفردات الدينية التي يتحرك بها العقل.
وهكذا مسألة الإيمان. أنا قد أستطيع أن أضغط عليك، أن أحبسك في زنزانة، ولكني لا أستطيع أن أحرك أي مفصل من مفاصل عقلك لأضغط عليه بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر.
إنّ مسألة الإيمان هي مسألة تتصل بالإنسان نفسه، ولا يمكن لإنسان أن يكره إنساناً على إيمان أو كفر، ولهذا لاحظنا التعبير القرآني {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256). إنّ المسألة هي أنّ طريق الرشد واضح وطريق الغي واضح، وعلى الإنسان أن يواجه هذين الطريقين ليختار مصيره من خلال اختياره للخط الذي يتحرك فيه، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان: 3) و {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10).
إنّ معنى ذلك، أن يقول إنسان لقد أكرهت على الكفر أو أكرهت على الإيمان هو منطق لا معنى له وقد خاطب الله رسوله (ص) بقوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99).
إنه لا يملك أن يكره الناس على الإيمان، ولا يملك أن يكره الناس على أي شيء، ولذلك أعفى الله نبيه من كل مسؤولية كفر الكافرين الذين دعاهم إلى الإيمان، والذين بلغهم رسالات الله، لأنّ النبي (ص) “لا يملك عقل الناس، إنما يملك الكلمة التي تتحرك نحو العقل، ويملك الجو الذي يحيط بالعقل، ويملك العناصر التي يمكن أن تفتح آفاق العقل. أما العقل في ذاته فلا يملكه إلا خالقه، أما الأنبياء فإنهم لا يملكون عقول الناس بحيث يستطيعون أن يحولوها بعيداً عن الكلمة وبعيداً عن النظرة واللمسة والجو وما إلى ذلك من العناصر التي تترك تأثيرها على الإنسان”.
إننا نلاحظ أنّ “مسألة الإكراه في الدين ليست مسألة واردة في حساب الواقع بقطع النظر عن الجانب التشريعي، قد يقول قائل إننا نرى أن هناك ضغطاً على الناس لكي يسلموا، فالضغط بدء في صدر الدعوة الإسلامية، فقد جرى الضغط على الذين أسلموا أن لا يكفروا، أليس ذلك إكراهاً في الدين؟ هذا ليس إكراهاً في الدين، هذا إكراه في فرض النظام وإكراه في فرض السلطة، لأن أية قوة تريد إرساء قواعدها وفرض نظامها، فإن من الطبيعي أن تخضع كل الناس الذين يعيشون في دائرة هذا النظام لكل مفردات النظام”.
ماذا تفعل كلّ الحكومات أمام المواطنين الذين يتمردون على النظام؟ إنها تواجههم بالعنف إذا لم ينفع الرفق، لتكرههم على ما لا يريدون، بل لتطبّق عليهم ما يصلح أمرهم وما يصلح الناس. فما يتحدّث عنه من عنف لإخضاع الإنسان للسلطة في الإسلام، إنما يمثل خطاً يتفق مع كل الخطوط الموجودة في العالم عندما يراد لسلطة فكر أن تنتشر، وعندما يراد لنظام أن يتركز، ولذلك فرق الإسلام بين الإسلام والإيمان، فاعتبر أن الإسلام هو الخضوع للنظام والخضوع للخط، بينما الإيمان هو القناعة الفكرية والروحية {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: 14). إنه لم يفرض عليهم الإيمان، لأنّ هذا مستحيل من جهته، ولكنه هيّأ الأجواء لينطلقوا ليكونوا المسلمين المنسجمين مع الخط العام والمنسجمين مع النظام العام.
إذاً .. إذا كان الله لا يقبل منا أن نسير وفق منهج تقليد الآباء، وإذا كان الإيمان لا يمكن أن يتم بالإكراه، فكيف نؤمن؟ لا بد من المنهج الذي يحرك الفكر نحو كل مفردات الإيمان.
الهوامش:
(١) مجلة الأضواء: عدد 2، 1404هـ، ص 28.
(٢) الكافي: ج 2 ص 89.
(٣) الإمام علي صوت العدالة الإنسانية: ج 1 ص 176.
(٤) نهج البلاغة: الخطبة 224.
(٥) طرائف المقال للسيد علي البروجردي: ج 2 ص 393، وفلاسفة الشيعة للشيخ عبد الله نعمة: ص 406.
(٦) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث: ج 1 ص 74.
(٧) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث: ج 1 ص 85.
(٨) الكافي: ج 2 ص 388.
(٩) الكافي: ج 2 ص 399.
(١٠) نهج البلاغة: الخطبة 61، وعلل الشرائع: ص 18.
(١١) الكافي: ج 2 ص 405 الحديث 6.
(١٢) الكافي: ج 2 ص 404 الحديث 2.
(١٣) الكافي: ج 2 ص 405 الحديث 7.
(١٤) أي في متابعته لقطعه.
(١٥) المكاسب المحرمة: ج 1 ص 133-134.
(١٦) التنقيح في شرح العروة الوثقى، للسيد الخوئي: ج 3 ص 79-80.
(١٧) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث: ج 1 ص 85.
(١٨) ص 332 ج 4 سيرة ابن هشام في رواية البلاذرى في أنساب الاشراف “إني والله لا أحل لكم إلا ما أحل الله ولا أحرم عليك إلا ما حرم الله” ج 1 ص 558