كلما دعاني عقلي إلى وجبة تفكير لا استطيع إلا أن ألبي دعوته فورا, حتى وأنا خارج وطني, قد يصل معي القاريء إلى حافة الدهشة حيث المقالة اختارتني ولم أختارها, دون أن أعرف سبب إهتمامي المفاجيء لمقالي هذا, الذي أعتبره آخر عنقودي في شهر رمضان, وقد أترك لك مساحة البياض المتبقي هنا.
ما يراوغ في هذه المقالة ليس العنوان ولا المضمون فذاك يحتاج منا إلى اطلالة ستأتي, لكنني لا يمكنني تجاوز الحدود, قد تسألوني لماذا إخترت هذا العنوان؟ وهل هو مجرد عنوان؟ ولماذا قررت بهكذا كتابة؟ ومن هنا فقد قررت من البداية الولوج من هذه البوابة التي استثمرها في كتابتي هذه بسؤال للقاريء العزيز: ما الذي يملأ الكون؟! وأنا أكتب هذا المقال كنت أعرف إنني لا أحصي ما حولي من قراء, ولم أكن أتصور يوما بأنني سأقع في الفخ وأجد نفسي أسيرة مذهلة لصوت قلمي الحر , على إن مرد إهتمامي الرئيسي هو الصدق والصراحة البالغة والكتابة المطلقة دون اسفاف.
عندما أجلس واكتب تشعرني الكتابة كإنها عبارة عن فنجان من القهوة, أحمله وأقلبه وأسكب معه كل مشاعري وانفعالاتي, وعندما احاول ان اكتب أسلط الضوء على ما أشاهد من أحداث ومشاكل ومواقف يومية, قد تهز كياني ومشاعري وتفتح لي آفاق عديدة للكتابة, البعض يتهمني بإني كاتبة ذاتية أكتب عن تجربتي الذاتية في الحياة, فلا أعير اهتماما بغير ذلك ,حيث يجد البعض لي صخبا غير عادي مفعم بالعناد والقوة والإعتزاز.
يا أعزائي إن مفهوم الكتابة عند البعض مغيبا, حيث لا اكتب بلغة المجتمع الذي أزوره أو أعايشه, بل ألجأ أن أكتب بلغة تصوغ جرأتي وثقافتي وفكري وبعيدا عن أنوثتي , أؤيد بنات جنسي بعمق ولكن ذلك لن يمنعني من رؤية عيوبهن موضوعيا وتلك مشكلتي مع من أحب! فلا عجب في ذلك حيث لدينا في السعودية والخليج جرأة نسوية أدبية رائعة غير مسبوقة.
لم يعد السكوت ممكنا ولا بد من التصورات التي تجعل من عافية العقل الثقافي متاح وممكن من أبناء وبنات هذا الجيل الواعد, أشعر بالمعاناة الفكرية الطارئة للكاتب ووجعه عندما ينوء الجسد والفكر بأعباء الحياة, فمن حق الكاتب أن يتكلم دون إغراء القاريء بالقراءة حيث إنني أعتبرها مسؤولية دون ترف, هذا هو احساسي الذي يفوق الإحساس بالكلمة التي أكتبها وبالورقة التي أمامي, لست مع الكتابة الساخنة ولا زالت كتاباتي طرية, تحتاج لكثير من العمل وبعيدة عن التهريج ومع ذلك سأترك للقاريء إنطباعاته.
ولن أبالغ لو قلت إنه لدينا تسونامي أدبي نسائي قادم وبقوة, البعض من الكاتبات أبدعن وحطمن بمشاويرالأدب النسائي, غير قابل للنقاش والجحود أو النكران, حيث تقيم الكاتبة التي برعت تماما في طريقتها المتفوقة في توصيل صوتها وما تريده من أفكار التي تعتمد على البعد الزمني, الكثير يدرك تماما إن المرأة الطموح هي التي لا تعترف بالحواجز أو الجدران, ففي كل يوم يولد فجرا جديدا من النساء المبدعات, أصرخ هنا بأعلى صوتي قائلة لا أحد يستطيع أن يئد إبداع المرأة, ومن لا يدرك إن صوتها الفكري مثقف وملتزم سيكون هناك حتما تخلف عربي كبير, علينا أن نقرأ للمرأة بشكل موحد دون تصورها مجرد خصر وشفاه.
في لحظة شاردة عند بلوغ المرأة سن متقدم من عمرها, تناديها المرآة لتذكرها بالملامح التي تتهيء لتجاعيد وجهها وكأنما هي الآن باتت إنسانا مؤجلا, نعم وبهكذا عمر محدد حيث تنفتح أمامها غابة من الأسئلة والشكوك على بحر من القلق والتردد, وأكيد ستدفع المرأة المعنية ثمن تلك المهاترات, هناك من يقول إن سن الأربعين أو حتى الخمسين للمرأة فاتحة التدحرج إلى اليأس, وآخرون يقولون محطة للصعود إلى النضج, فليعتبر القاريء هذا بوح الأنا في أعلى صور الجرأة, لن أنكر بوجود ملامح إمرأة في الأربعين تخفي حزنا دفينا وقلقا ثقيلا, وهي تعيش مع زوج يحمل عدد سنين ما تحمله هي من عمرها وهنا:
أتعجب من يقول إن المرأة تشيخ قبل الرجل, حيث ارفض هذه المقولة التقليدية الهابطة, وكإننا نفتح مجلس عزاء وتأبين يوم أن تبلغ المرأة سن الأربعين أوالخمسين,لن تشيخ المرأة لوحدها بل المرأة والرجل يتقدمان في السن معا, أريد صوتا واحدايؤيد قولي ويا حبذا أن يكون صوت رجلا صادقا عادلا, من يحمي المرأة من هكذا تحطيم وانكسار بل وحكم جائر؟! أأمل أن تنتهي تلك المخيلة الجامحة في فكر الكثير, أعذروني ربما أعتبر نفسي بنت الربيع ما دمت أتنفس من رئة كلماتي البيضاء وأمارس عشقي الإلهي, لعل البعض يتحكم في رأي الخاص ويعتبرني ذات سن خريفي فلا صحة لفكري, هذا رأي البعض فلا يزعجني ذلك.
المرأة دائما جبارة فوق العادة, قوية في أسوء الأوضاع وتحضرني إحدى النساء وقد تجاوز عمرها الخمسين, كانت تستقبل ظروفها وحزنها ووجعها واقفة بشموخ ووقار رغم وضعها الصحي السيئ, والإبتسامة تعلو شفتيها وتلوح وراء كل تجعيدة في وجهها قصة من حياتها الصعبة وهي على قمة الدنيا وحيدة, أين هي من الرجل ولقد لخصت سنوات عمرها الطويل بقوة وثبات, هل لإنها بنت الخمسين ولابد لها أن تحظى بلقب يائس أم هذا هو قدرها والحكم الجائر عليها! ذات مرة جائتني تلك السيدة بكل عفوية وبساطة, ورمت جزءا من همومها الذاتية الساكنة في قلبها المجروح, بتناقضات مفاهيم جروحها الدائمة فلقد أصبح قلبها وعاء لزمن مشروخ, حيث أضافت لمسة إحباط خجولة بلحن صوتها الهاديء كهدوء الموت, وهل هناك مبالغة مني عندما وصفت المرأة بإنها جبارة فوق العادة؟ أيتحمل الرجل هكذا وحدة موحشة وبذات القوة ليرد علي أحد الرجال وبصدق, لعلني أعتبره فيما بعد جبار وفوق العادة ايضا, أرجو المعذرة من الرجل هذا التحامل مني, ولكنني هنا أناقش مسألة صريحة أزلية قد سبقت غيري في طرحها هنا.
لعل بعض القراء يعتبرون ما ذكرته إنها دعابة مني وقد بلغت من السذاجة حد السماجة, نحن النساء كالجبال في صبرنا كالسماء في نقائنا ووضوحنا وكالبحار في عطائنا, لنرسم لتاريخنا امتداد طويل يبعدنا عن العزلة والشبهة والسخرية والضعف, علينا أن نكون على امتداد عطاء سيدتنا خديجة الكبرى والسيدة فاطمة الزهراء والسيدة سكينة سلام الله عليهن, كل كلمة أكتبها عن المرأة كانت عن المرأة الإنسانة, أترقب بعض الردود التي تخدم فكرتي فأنا كلاسيكية في حديثي عن بنات جنسي, و ما زلت محاطة بأوراقي وقلمي ولهم عندي مكانة كبيرة وهيبة عظيمة, فلا يمكن أن أكتب دون صدق إحساسي هذا ليس من شيمتي وقيمتي.
لدي هنا مسألة تنطوي على صعوبة وخطورة بحيث يقفز السؤال في حيرة ! من يرتب وينسق المنهج الدراسي في الهيئات التعليمية؟ وما مؤهلات حصوله على هذا الحق؟ أود صادقة أن ٌتحترم تساؤلاتي الجادة, لنسعى إلى تأسيس مناهج دراسية رفيعة المستوى وذات ثقل ثقافي, وهذا كله مفتقد لدينا مع فائق احترامي لمن يهمه الأمر, لذلك لا يستطيع أحد أن يغامر بإنشاء منهجا متكاملا في متناول كل طالب علم, لابد من التجديد والتحديث عند كل فترة من السنوات, عفوا أرجوا أن لا يعتبر موضوعي هذا نقدا وإن أعتبر ذلك, فالنقد بذاته ضمير وله قواعده وعلينا احترامه.
التغيير والإصلاح الفكري والإجتماعي ليس مجرد مطلب وإنما شرط استثنائي وأولوية تحقيقه, لنأخذ على سبيل المثال المناهج الإنجليزية في مدارسنا إنها مناهج غير هادفة ولا تواكب حاجة الطالب, وكإنها وضعت بهدف واحد غير مقصود هو تحجيم القدرات اللغوية للطلبة, وكإنه لم يكن لواضيعها من هدف إلا شل قدرة الطلاب عن التحدث والإنطلاق في تلك اللغة المطلوبة دوليا.
يا ترى عن ماذا أحدثك عن منهج الدراسي الإنجليزي وما أدراك ما ذاك المنهح الذي ينتمي إلى القرن الماضي ؟! وعلى سبيل المثال لا الحصر ماذا يستفيد الطالب عند دراسته لموضوع التلوث البيئي أو التصحر, كيف لتلك المفردات اللغوية أن تخدم الطالب وتساعده على استخدامها والتحدث بها هنا وهناك , حيث هناك مواضيع تجبر الطالب على ممارسة مفرداتها بشكل محبب و دائم, لماذا لا تتطرق المناهج الإنجليزية لدرس الثقة النجاح السعادة العمل والأمل الحب, وغير ذلك من المواضيع التي تدخل فيها مفردات لغويىة قد تخدم حاجة الطالب لتحقيق غايته .
نحن بحاجة إلى إحداث انقلابات واسعة في كل شؤون حياتنا الثقافية التربوية البناءة بدءا من المناهج الدراسية, لنقف على أقدامنا وعقولنا وهذه هي المهمة التي تشمل كلمة التغيير, لا نريد أن نخلط بين التربية والتعليم وما بين ضرورة التغيير والتمسك بالأسس والمبادئ إنها ثنائيات حرجة وخطيرة , وبصدق لا حاجة بنا إلى تفكيك هذه الثنائيات نحن بحاجة إلى إعادة بناء وتهذيب فكرنا, أعتذر لا أريد أن ألوث قلمي وأجعل من الصمت فضيلة, في زمن الجبن والخوف والنفاق والكذب والتملقَ, ما أناقشه الآن يعكس واقعنا بقدر كبير لنفيق من غفوتنا وسباتنا وسلبياتنا, دعونا نؤسس طرقا واضحة ومرصوفة لأجيالنا القادمة لتفادي تعثرهم, وما دمت في جو الإنجليزي أود أن أكتب مقولة أعجبتني للكاتب والأديب الإنجليزي العظيم ويليام شكسبير: هناك ثمة أوقات هامة في حياة سائر الرجال حيث يقرر أولئك مستقبلهم أما بالنجاح أو بالفشل, وليس من حقنا أن نلوم نجومنا أو مقامنا الحقير ، بل يجب أن نلوم أنفسنا بالذات.
أثناء وجودي بنيويورك ومع وسط جولتي في أسواقها الكبيرة, بدأت الأمطار بالهطول بشكل غير عادي هكذا دون مقدمات, فأسرعت إلى الفندق الذي لا يبعد كثيرا عن السوق, وكانت تلك الأمطار تتساقط لعلها تتطهر الأرض والذنوب وما علق بها من أوساخ وجراثيم, وهنا طرأ على بالي إن الله سبحانه وتعالى ينزل الأمطار هنا, بينما في بلدي الحبيب نبقى شهور وشهور نواجه الحر والجفاف والغبار والرطوبة, مما قد يساعد على إحتضان وتكاثر تلك الميكروبات التي نسمع بها هنا وهناك في وسائل الإعلام مما يزيدنا رعبا وخوفا.
ها قد عدت من جديد إلى قهوتي قاومتها طوال أيام رمضان حين راودتني رائحتها هذا الصباح رشفة وراء رشفة وإنتهى كوبي بإنتهاء مقالتي الساخنة .